إبليس ليس من الملائكة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل إبليس (الشيطان) ملاك أم جان، وإذا كان من الجان لماذا لم يذكر في الآية سيرة الجان وذكرت فقط سيرة الملائكة عندما أمرهم الله سبحانه بالسجود لآدم (ع).
الجواب:
إبليس كان من الجن:
إبليس ليس من الملائكة وإنَّما كان من الجنّ وقد صرَّح القرآن الكريم بذلك في سورة الكهف قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾(1)، وقال تعالى في سورة ص: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ / قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ / قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾(2)، فلأنَّ إبليس خُلِقَ من النار كما هو مفاد الآية لذلك فهو من الجنّ إذ أنَّ الذي خُلِقَ من النَّار هم الجنّ كما أفادت ذلك الآية الواردة في سورة الرحمن: ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾(3)، والآية الواردة في سورة الحجر ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾(4).
لماذا شمله الخطاب:
وأمَّا لماذا شمله الخطاب الإلهيّ بالسُّجود لآدم رغم أنَّ الخطاب كان موجَّهًا للملائكة، فإذا لم يكن إبليس من الملائكة فكيف صحّ استثناؤه والاستثناء لا يكون إلا من جنس المستثنى منه، ثمَّ لماذا ساغ توبيخه من قِبَلِ الله تعالى على عدم السُّجود لو لم يكن من الملائكة رغم أنَّ الخطاب موجَّه لخصوص الملائكة، إذ أنَّ لإبليس أن يعتذر عن عدم السُّجود بأنَّه ليس من الملائكة، والخطاب إنَّما هو موجَّه لخصوص الملائكة.
والجواب:
أولاً: إنَّ الآيات ليس في شيء منها ما يدلّ على أنَّ الأمر بالسُّجود وُجِّهَ لخصوص الملائكة، إذ غاية ما تدلّ عليه الآيات أنَّ الملائكة أُمروا بالسُّجود لآدم أمَّا أنَّ هذا الأمر لم يتوجَّه لغيرهم فلا دلالة للآيات على ذلك، فقوله تعالى مثلا: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ﴾ وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ﴾ لا يدلّ على أكثر من أنَّ خطابًا وأمرًا إلهيًّا بالسُّجود توجَّه إلى الملائكة، فلا يوجد في الآيتين وكذلك غيرهما ما يدلّ على عدم توجُّه أمرٍ بالسجود لغير الملائكة.
ثانيًا: إنَّ استثناء إبليس في مثل قوله تعالى ﴿فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ لا يدلّ على أنَّ إبليس من جنس الملائكة، وذلك لأنَّه وإن كان الأصل في الاستثناء أن يكون متَّصلا بمعنى أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه إلا أنَّ ذلك إنَّما يكون في حالات عدم قيام الدَّليل على أنَّه استثناء منقطع، وأمَّا مع قيام الدَّليل فلا يصحّ استظهار الاتصال في الاستثناء.
وحيث أنَّ قوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ صريح في أنَّه ليس من جنس الملائكة لذلك يتعيَّن استظهار أنَّ الاستثناء منقطع بمعنى أنَّ المستثنى ليس من جنس المستثنى منه كما يتَّفق ذلك كثيرًا في كلام العرب بل وفي القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿.. لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ..﴾(5)، فاستُثنيت التَّجارة من الأكل بالباطل رغم أنَّها ليست من جنس الأكل بالباطل، وهكذا قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا / إِلاَّ قِيلًا سَلاَمًا سَلاَمًا﴾(6)، فالآية المباركة تُخبر عن أنَّ أهل الجنَّة لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا ثُمَّ تستثني السَّلام من اللغو والتَّأثيم، والسَّلام ليس من جنسها، لذلك فهو استثناء منقطع.
ثالثًا: إنَّ المُصحِّح لاستثناء إبليس من الملائكة رغم أنَّه ليس من جنسهم هو أنَّه كان مثلهم مأمورًا بالسُّجود لآدم (ع) كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾(7)، ولأنَّه كان في مصافّ الملائكة وقد أُمر كما أُمروا بالسُّجود لآدم (ع)، لذلك صَحَّ استثناؤه وصحَّ توبيخه على عصيانه الأمر بالسُّجود.
روى الشَّيخ الطبرسي عن أبي جعفر بن بابويه بإسناده عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) قال: “سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئًا من أمر السَّماء؟” فقال (ع): “لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئًا من أمر السَّماء، وكان من الجنّ وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنَّه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنَّه ليس منها، فلمَّا أُمر بالسُّجود لآدم كان منه الذي كان”(8).
وثمَّة روايات أخرى تبلغ حدَّ التَّواتر كما أفاد ذلك الشَّيخ المفيد(9) يمكن الوقوف عليها بالمراجعة.
ثُمَّ إنَّ هنا وجهًا(10) آخر يمكن أن يُعالَجَ به الإشكال وهو أنَّ لفظ “إلاَّ” لا يُفيد معنى الاستثناء في الآية وإنَّما هو بمعنى “لكن” فيكون معنى الآية “فسجد الملائكة لكنَّ إبليس لم يسجد”.
كما هو معنى قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ / أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ / فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾(11)، فإنَّ لفظ “إلا” في هذه الآية جاء بمعنى “لكن” أي أنَّ ما تعبدون من أصنام عدوٌّ لي لكن ربّ العالمين ليس عدواً لي.
فكلمة “إلا” بناءً على هذا الوجه أفادت معنى الاستدراك والذي لا يقتضي ان يكون المعنى المُستدرَك داخلًا ضمن الحكم الأول لو لا الاستدراك، وذلك لانَّ الاستدراك كثيرًا ما يأتي لنفي أمرٍ متوهَّم الثبوت أو اثبات أمرٍ متوهَّم النفي.
والحمد لله رب العالمين
من كتاب: شؤون قرآنية
الشيخ محمد صنقور
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.