1- البشرى والفوز العظيم:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[1].
عرّف اللّه سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، ولمّا كانت كلّ معاملة تتكوّن في الحقيقة من خمسة أركان أساسيّة، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار اللّه سبحانه إلى كلّ هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة ثمناً لهذه المعاملة.
وأما طريقة تسليم البضاعة فبواسطة القتال. والحقّ سبحانه وتعالى حاضر في كلّ مكان وبالأخصّ في ميدان الجهاد لتقبّل هذه الصفقة، سواء كانت روحاً أم مالاً يبذل، وإذا كان هذا القتال في سبيله فهو تعالى سوف يكون المشتري فيقبل هذه الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
وثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجّلاً، إلّا أنّه مضمون، لأنّ اللّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع، لا يوجد من هو أوفى بعهده منه. فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ولا يخلف وعده والعياذ باللّه، وعلى هذا فلا يبقى أيّ مجال للشكّ في وفائه بعهده.
والأروع من كلّ شيء أنّه تعالى قد بارك للطّرف المقابل صفقته، وتمنّى له أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجّار، والأكثر من ذلك وعده بالبشرى والفوز العظيم على هذه المعاملة العظيمة والصفقة الكبيرة. فهل يتصوّر الإنسان رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!.
كما يقول الله عزّ وجل في آية أخرى من كتابه العزيز: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[2].
الآيات الكريمة هي في مقام بيان أجر المجاهدين في سبيل الله من أجل الذود والحفاظ على دينهم السماويّ المقدَّس. فالمؤمنون الذين صدّقوا بوحدانية اللّه تعالى وهاجروا عن أوطانهم التي هي ديار الكفر، وجاهدوا الكفّار في طريق مرضاة اللّه وإعلاء كلمة الحقّ، وبذلوا المال والنفس في سبيل الله حتّى الشهادة، وتحمّلوا المشاقّ من جرّاء ذلك كلّه، هم أَعظم درجة عند اللَّه من سواهم من المؤمنين الّذين لم يكن لهم نصيب من ذلك كلّه، وهم المستحقّون للفوز بثواب الله الموعود ما داموا قد استمرّوا على عقيدتهم وإيمانهم.
والله تعالى يزفّ إليهم البشرى – بما صبروا واحتسبوا في جنبه – بالفوز والرحمة والرضوان. ويبشّرهم أيضاً بالجنّة خالدين فيها إلى الأبد، مع ما فيها من النّعم الدائمة التي لا حدّ لها ولا انقطاع. هذا هو أجر وثواب من يهب نفسه وماله لله ويجاهد في سبيله ويضحّي بأغلى ما يملك من أجله.
2- المغفرة والجنة:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[3].
لقد شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة، وأنّ الناس في الحياة الدنيا تجّار يأتون إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه اللّه سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من يربح ويسعد، ومنهم من لا يجني سوى الخيبة والخسران. والمجاهدون في سبيل اللّه هم من الصنف الأول.
وإنّ الهدف الأساسيّ لهذه الآيات المباركة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللّه، وهما وإن عُدّا من الواجبات المفروضة، إلّا أنّ الآيات هنا لم تطرحهما بصيغة الأمر، بل قدّمتهما بعرض تجاريّ مقترن بتعابير تبيّن اللطف اللامتناهي للبارئ عزّ وجلّ.
فممّا لا شكّ فيه أنّ النجاة من العذاب الأليم أمنية كلّ إنسان، وهذه النجاة موقوفة كما يقول تبارك وتعالى على أمرين أساسييّن: الإيمان، والجهاد.
فالإيمان بالله وبرسوله، والجهاد بالنفس والمال هما رأس مال هذه التجارة المنجية من العذاب، فالإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان باللّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم وجود الوسائل والإمكانات المالية، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّ الله تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّا عند توفّر الإمكانات الماديّة.
أمّا العوض لهذه المعاملة العظيمة والترجمة العمليّة لهذه النجاة الموعودة فهي المغفرة والجنة. إذ إنّ أوّل هدية يتحف اللّه سبحانه بها عباده الذين جاهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة جميع الذنوب، لأنّ هذه المغفرة مقدّمة للدخول في جنّة الخلد ولا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب.
ثمَّ إنَّ مقابلة المال والنفس المبذولين وهما المتاع القليل، بجنّات عدن الخالدة، مما تطيب به نفسُ المؤمن وتقوى إرادته لبذل النَّفس والتضحية بها، واختيار البقاء على الفناء. ثم يبشّرهم الحقّ تعالى في نهاية المطاف بنعمة يحبّونها وهي النصر القريب. فيا لها من تجارة مباركة مربحة تشتمل على النجاة من العذاب، والمغفرة والجنة، والفتح القريب. ولذلك عبّر عنها البارئ سبحانه بالفوز العظيم، وزفَّ لهم بشراها.
3- هداية السبيل:
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[4].
بالرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بطريق المسير إلى اللّه إلّا أنّ هناك حقيقة ثابتة، وهي أنّ اللّه يمنح الهداية والقوّة والاطمئنان مقابل هذه المشاكل للذين يجاهدون فيه. والجهاد هو بذل الجهد ولا يكون إلّا فيما يخالف هوى النَّفس ومقتضى الطَّبع. وله معنى واسع ومطلق فهو يشمل كلّ سعيٍ وجهدٍ في سبيل اللّه ومن أجل الوصول إلى الأهداف الإلهية. سواء كان في سبيل كسب المعرفة أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر عن المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أيّ عملٍ حسن وصالح! ولكن هذه الهداية مشروطة بأمر أساسيٍّ وهي أن تكون في الله فقط، بمعنى أن تكون خالصة له. والمراد بالسبل الطرق المتعدّدة التي تنتهي إلى اللّه.
وعليه، فإنّ الجهاد في أيّ طريق كان من هذه الطرق إذا كان خالصاً لوجه الله فهو سبب للهداية إلى الطريق الذي ينتهي إلى اللّه. وهذا وعدٌ وعده اللّه لجميع المجاهدين في سبيله، وأكّده بأنواع التأكيدات، فجعل الهداية والتوفيق والانتصار والرقيّ في أمرين أساسييّن هما “الجهاد” و”خلوص النية”.
4- محبّة الحقّ تعالى:
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[5].
تبيّن الآية الكريمة وتؤكّد بشكل واضح أنّ الذين يقاتلون في سبيل الله هم مورد محبّته. وكما نلاحظ أنّ التأكيد هنا ليس على القتال فحسب، بل على القتال الذي هو “في سبيله” تعالى وحده، أضف إلى ذلك خاصّية أخرى ينبغي أن يتمتّع بها المجاهدون لكي ينعموا بمحبة الحقّ، وهي ثباتهم ووقوفهم بشكل قويّ وراسخ أمام العدوّ بصورة تعكس قوة صفّهم الذي ليس فيه تصدُّع أو تخلخل. فالانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميدان القتال من العوامل المهمّة والمؤثّرة في تحقيق النصر.
وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحروب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وإلّا فلن يكون النصر التامّ حليفنا. فتشبيه القرآن العدوّ بأنّه كالسيل العارم والمدمّر والذي لا يمكن صدّه والسيطرة عليه إلّا من خلال سدّ حديديّ محكم ومنيع، والتعبير بأنّ على المؤمنين أن يكونوا كالبنيان المرصوص من أروع التعابير عن الوحدة والرسوخ.
وممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ جزء في السدّ، دوراً معيّناً في مواجهة السيل، وهذا الدور مهمّ ومؤثّر على جميع الأجزاء الأخرى، وفي حالة قوّته وتماسكه وعدم وجود تشقّقات أو ثغرات فيه، سيصعب عندئذٍ نفوذ العدوّ منه، وهكذا هو حال المؤمنين في تراصّهم ووحدتهم إذا ما حاول العدوّ النيل منهم فإنّه سيرى المواجهة القوية وسيعود خائباً.
وإذا كان البارئ عزّ وجلّ يعلن حبّه للمجاهدين المتراصّين الذين يشكّلون وحدة متماسكة، فإنّه يلزم من ذلك أنّه سبحانه وفي نفس الوقت يعلن سخطه وغضبه على الجموع المسلمة إذا كانت متمزّقة ومشتّتة، ونتيجته هو ما نراه الآن متجسّداً في تسلّط مجموعة صغيرة من الصهاينة على أرضنا الإسلامية وعددنا يربو على المليار مسلم[6]!!
دار المعارف الإسلامية الثقافية
————————–
[1] سورة التوبة، الآية 111.
[2] سورة التوبة، الآيات 20-22.
[3] سورة الصف، الآيات 10-13.
[4] سورة العنكبوت، الآية 69.
[5] سورة الصف، الآية 4.
[6] يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان (ج9، ص249): والآية تعلِّل خصوص المورد ـ وهو أن يعِدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا ـ بالالتزام كما أن الآية السابقة ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون﴾ تعلِّل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لايفعلون، وذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم ولا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعِدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا المعركة.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.