الإمام عليٌّ (ع) قُتل في الصلاة

0
10







الإمامُ عليٌّ (ع) قُتل في الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

المسألة:

هل قُتل أميرُ المؤمنين عليٌّ (ع) عند دخوله إلى المسجد الأعظم في الكوفة أو قُتل وهو في الصلاة؟

الجواب:

الصحيح -كما سيتَّضح- أنَّ الإمام أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (ع) أُصيب وهو في الصلاة، فالمؤرِّخون وإنْ كانوا قد اختلفوا في ذلك كما أفاد ابنُ عبد البر في الاستيعاب قال: “.. واختلفوا أيضًا هل ضرَبه في الصلاة أو قبل الدخول فيها؟ وهل استخلف مَن أتمّ بهم الصلاة أو هو أتمَّها؟ والأكثرُ أنَّه استخلف جعدة بن هبيرة، فصلَّى بهم تلك الصلاة، والله أعلم”([1]).

فهم وإنْ كانوا قد اختلفوا في ذلك إلا أنَّ الصحيح أنَّه (ع) قُتل أو قلْ أُصيب وهو في الصلاة بل الأرجح أنَّ ذلك وقع في الصلاة المكتوبة وليس في النافلة، ولإثبات أنَّه قُتل في الصلاة ولم يُقتل حين دخوله للمسجد الأعظم كما هو مفاد الرواية الأخرى نستعرضُ ما وقفتُ عليه من النصوص ثم نستعرضُ القرائن النافية للراوية الثانية، فالبحث يقعُ في محورين:

النصوص التي دلَّت على أنَّ اغتياله وقع في الصلاة:

المحور الأول: في النصوص التي دلَّت على أنَّ اغتياله وقع أثناء أدائه للصلاة:

النصُّ الأول: أورده الشيخ الطوسي في الأمالي بسندٍ ينتهي إلى الإمام الرضا (ع) عن آبائه عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: لمّا ضَرب ابنُ ملجم -لعنه الله- أميرَ المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام)، وكان معه آخر فوقعتْ ضربتهُ على الحائط، وأمّا ابنُ ملجم فضرَبَه فوقعت الضربةُ وهو ساجد على رأسِه، على الضربة التي كانت ..”([2]) يعني أنَّ ضربة ابن ملجم وقعت على أثَرِ الضربة التي أصابته (ع) يوم الخندق عند منازلته لعمرو بن ود العامري.

أقول: الروايةُ صريحة في أنَّ اغتياله (ع) قد تمَّ وهو في الصلاة، وما أفادته من وقوعه حال السجود هو المناسب للاعتبار، فهو الوقتُ الذي يكونُ فيه المصلُّون مشغولين بالسجود، فالمترصِّد الحريص بالطبع على نجاح مهمَّته يعلمُ أنَّه سيكون في سعةٍ من أمرِه في هذا الظرف خصوصًا وأنَّه يعلمُ من حال أمير المؤمنين (ع) أنَّه طويلُ السجود، ولن يرفعَ المصلُّون رؤوسهم قبل أنْ يرفع الإمامُ رأسه من السجود، فإمَّا أنْ يكون ابنُ ملجم قد ضرب الإمام (ع) وهو ساجد أو حين همَّ برفع رأسه من السجود، وكلا الاحتمالين مناسبٌ لظاهر الرواية.

النص الثاني: أورده أبو بكر المعروف بابن أبي الدنيا في كتابه مقتل أمير المؤمنين (ع) قال: حدَّثنا الحسين، حدَّثنا عبد الله قال: حدَّثني أبي عن هشام بن محمد قال: حدَّثني عمر بن عبد الرحمن بن نفيع بن جعدة بن هبيرة أنَّه لما ضَربَ ابنُ ملجم عليَّا (عليه السلام) وهو في الصلاة تأخَّر فدفع في ظهر جعدة بن هبيرة، فصلَّى بالناس، ثم قال عليٌّ (ع) عليَّ بالرجل فأُتي فقال: أي عدوَّ الله ألم أُحسِن إليك ..”([3]).

أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا في أنَّ أمير المؤمنين (ع) قد اغتيل وهو في الصلاة، وهي كذلك صريحةٌ في أنَّ ذلك وقع في الصلاةِ المكتوبة كما هو مقتضى قوله: “تأخَّر فدفع في ظهر جعدة بن هبيرة فصلَّى بالناس” وجعدةُ بن هبيرة هو ابن أخت الإمام علي (ع) أمُّه أم هاني فاختة بنت أبي طالب، وهو كذلك زوج ابنته أمِّ الحسن. ويظهر أنَّ منشأ تقديم الجعد (رحمه الله) رغم أنَّ الإمام الحسن (ع) كان حاضرًا كما تُشير لذلك أكثر الروايات هو أنَّ الإمام الحسن (ع) اشتغل بأبيه (ع).

النص الثالث: أورده ابنُ عساكر -وغيره- في تاريخ مدينة دمشق قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد، حدَّثنا أحمد بن محمد بن أحمد، حدَّثنا عيسى بن علي، حدَّثنا عبد الله بن محمد البغوي حدَّثنا أحمد بن منصور، حدَّثننا يحيى بن بكير المصري قال: أخبرني الليث بن سعد: أنَّ عبد الرحمن بن ملجم ضربَ عليًّا (ع) في صلاة الصبح على دهشٍ بسيفٍ كان سمَّه بالسم، ومات من يومِه ودُفن بالكوفة ليلا” وذكره في الرياض النضرة وقال: أخرجه البغوي في معجمه([4]).

أقول: وكذلك هذه الرواية صريحةٌ في أنَّ أمير المؤمنين (ع) قد تمَّ اغتياله أثناء الصلاة، وكذلك هي شديدة الظهور في أنَّ ذلك قد وقع في الصلاة المكتوبة. وأمَّا قوله أنَّ الإمام (ع): قد مات من يومه، فهو وإنْ كان خلاف ما هو المشهور إلا أنَّ ذلك لا يضرُّ بصحة الاستناد إلى ما أورده في صدر حديثه كما هو واضح.

النص الرابع: أورده الصنعاني المتوفى سنة 211ه في الأمالي قال: أخبرنا أبو علي إسماعيل، حدَّثنا أحمد، حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثننا معمَّر، عن الزهري أنَّ ابن ملجم طعن عليًّا (ع) حين رفع رأسه من الركعة فانصرف وقال: أتمُّوا صلاتكم ولم يُقدِّم أحدًا”([5]).

أقول: وهذا النصُّ صريحٌ أيضًا في أنَّ اغتيال أمير المؤمنين (ع) قد وقع في أثناء أدائه للصلاة، وهي كذلك صريحة في أنَّ ذلك قد وقع أثناء أدائه للمكتوبة وهي صلاة الصبح بقرينة قوله: أتمُّوا صلاتكم ، والتعبير بالطعن وإنْ لم يكن دقيقًا ولكنَّه لا يضرُّ بدلالة الرواية على أنَّ الاغتيال قد وقع أثناء أداء الإمام للصلاة، ومعنى قوله: “فانصرف” هو أنَّه (ع) هدم صلاته ولم يتمَّها، ومعنى قوله: “حين رفع رأسه من الركعة” يحتمل معنيين:

الاحتمال الأول: أنَّ ذلك قد وقع بعد إتمام السجدة الثانية فإنَّه يكون بذلك قد رفع رأسه من تمام الركعة والتي هي عبارة عن القيام والركوع والسجدتين، وهذا الاحتمال هو المناسب للمصطلح الفقهي، وهو المناسب لرواية الإمام زين العابدين (ع).

الاحتمال الثاني: أنَّ المراد من رفع رأسه من الركعة هو حين رفع رأسه من الركوع، وهو خلاف الظاهر وإنْ كان لا يضرُّ بما نُريد إثباته من دلالة الرواية على أنَّ عمليَّة الاغتيال قد وقعت أثناء الصلاة، والاختلاف في مثل هذه التفاصيل الدقيقة وارد.

النص الخامس: أورده محمد بن طلحة الشافعي في كتابه مطالب السؤول قال: “.. فلمَّا كانت الليلة التي تقدَّم ذكرها خرج من منزله لأجل صلاة الصبح، وكان في داره شيء من الإوز، فلمَّا صار في صحن الدار تصايح الإوز في وجهه، فقال (عليه السلام): صوائح تتبعُها نوائح، وقيل: صوارخ .. ثم خرج فلمَّا وقف في موضع الأذان أذَّن ودخل المسجد .. فجعل يُنبِّه مَن بالمسجد من النيام. ثم صار إلى محرابه فوقف فيه، واستفتح وقرأ، فلمَّا ركعَ وسجد سجدةً ضرَبه على رأسه، فوقعت الضربة على ضربة عمرو بن عبد ود يوم الخندق بين يدي رسول الله (ص) .. ثم بادر -ابنُ ملجم- وخرج من المسجد هاربًا، وسقط (عليه السلام) لِمَا به، وتسامع الناس بذلك وقالوا: قُتل أمير المؤمنين (عليه السلام) ..”([6]).

أقول: وهذا النصُّ كذلك صريحٌ في أنَّ عمليَّة الاغتيال قد وقعت أثناء أداء أمير المؤمنين (ع) للصلاة، نعم هي ليست صريحةً في وقوع ذلك أثناء أدائه للمكتوبة بل هي لا تخلو من ظهورٍ في أنَّ ذلك وقع أثناء أدائه للنافلة قبل أنْ تنعقد صلاة الجماعة لأداء الفريضة.

النصُّ السادس: أورده أبو بكر المعروف بابن أبي الدنيا في كتابه مقتل أمير المؤمنين (ع) قال: حدَّثنا الحسين، حدَّثنا عبد الله، قال حدَّثني أبي (رحمه الله) عن هشام بن محمد قال: حدَّثني رجلٌ من النُخع عن صالح بن ميثم عن عمران بن ميثم عن أبيه: “أنَّ عليَّا (ع) خرج فكبَّر في الصلاة ثم قرأ من سورة الأنبياء إحدى عشرة آية، ثم ضرَبه ابنُ ملجم من الصف على قرنه فشدَّ عليه الناس وأخذوه وانتزعوا السيف من يده، وهم قيام في الصلاة وركع عليٌّ ثم سجد فنظرتُ إليه ينقلُ رأسه من الدم إذا سجد من مكان إلى مكان ثم قام في الثانية، فقام فخفَّف القراءة ثم جلس فتشهَّد ثم سلَّم وأسند ظهرَه إلى حائط المسجد”([7]).

أقول: وهذه الرواية كذلك صريحةٌ في أنَّ عمليَّة الاغتيال وقعت أثناء الصلاة وأنَّها وقعت في الصلاة المكتوبة، نعم قد اشتملت هذه الرواية على تفاصيل أغفلتها الروايات الأخرى واشتملت على تفاصيل منافية للتفاصيل التي أفادتها بعضُ الروايات إلا أنَّها متَّفقة مع الروايات المذكورة في أنَّ اغتيال الإمام (ع) قد وقع أثناء أدائه للصلاة المفروضة وهي صلاة الصبح، فهي صالحة للاستناد إليها من هذه الجهة، فإنَّ تفاوت الروايات واختلافها في بعض التفاصيل لا يضرُّ بصحة الاستناد إليها جميعًا في المقدار المشترك بينها، كما عليه سيرة العقلاء في كيفية التعاطي مع الروايات المختلفة في التفاصيل، تمامًا كما لو أخبر أحدُهم أنَّ زيدًا قُتل في المعركة بسهمٍ أصابه في حلقِه، وأخبر آخر أنَّ زيدًا قُتل في ذات المعركة بسيفٍ أصابه في حلقِه، وأخبر ثالثٌ أنَّه قُتل في المعركة برمحٍ أصابه في جنبه، وأخبر رابعٌ أنَّه قُتل في المعركة برمحٍ أو نشَّابٍ وقع في ترقوته، فإنَّ هذه الأخبار وإنْ اختلفت في التفاصيل إلا أنَّ ذلك لا يمنعُ من صحَّة الاستناد إليها فيما هي متفقةٌ عليه من أنَّ زيدًا قد قُتل في المعركة. كذلك المقام فإنَّ هذه النصوص وإنْ اختلفت في التفاصيل إلا أنَّها متَّفقة على أنَّ أمير المؤمنين (ع) قد تمَّ اغتياله وهو في الصلاة.

النص السابع: أورده مطهَّر بن طاهر المقدسي في كتابه البدء والتأريخ وكان حيَّا سنة 355هـ قال: وروي عن الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه قال: لمَّا أصبح اليوم الذي ضرَبه الرجلُ فيه فقال: لقد سنحَ لي الليلة النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) فقلتُ: يا رسول الله ماذا لقيتُ من أُمَّتِك قال: ادعُ الله أنْ يُريحك منهم، قالوا: ودخل عليٌّ المسجد ونبَّه النيام، فركل ابن ملجم برجله وهو ملتفٌّ بعباءة، وقال له: قم فما أراك إلا الذي أظنُّه، وافتتح ركعتي الفجر، فأتاه ابنُ ملجم عليه لعائن الله فضرَبه على صلعته حيثُ وضع النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يده وقال: أشقى الناس أُحيمر ثمود والذي يخضبُ هذه من هذه ..”([8]).

أقول: هذا النصُّ صريحٌ أيضاً أنَّ الإمام (ع) قد أُصيب وهو في الصلاة، نعم يظهر من النصِّ أنَّ ذلك وقع في النافلة، حيثُ أفاد أنَّه ضربه بعد أنْ افتتح ركعتي الفجر.

النص الثامن: أورده أحمد بن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح قال: وجاء عليٌّ رحمه الله إلى باب دار مفتحة ليخرج، فتعلَّق الباب بمئزره فحلَّ مئزره وهو يقول: اشدُد حيازيمك للموت فإنَّ الموت لاقيكا .. قال: ثم مضى يريد المسجد وهو يقول: خلوا سبيل المؤمن المجاهد * في الله لا يعبد غير الواحد .. قال: ثم جاء حتى وقف في موضع الأذان، فأذَّن ودخل المسجد .. فجعل يُنبِّه مَن في المسجد من النيام، ثم صار إلى محرابه فوقف فيه، فافتتح الصلاة، وقرأ، فلمَّا ركع وسجدَ سجدةً واستوى قاعداً، وأراد أنْ يسجد الثانية ضربه ابنُ ملجم ضربةً على رأسه. فوقعت الضربةُ على الضربة التي كان ضربَها عمرو بنُ عبد ود يوم الخندق بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بادر فخرج من المسجد هارباً، وسقط عليٌّ رحمة الله عليه لِمَا به، وتسامعَ الناسُ بذلك وقالوا: قُتل أمير المؤمنين ودنت الصلاة، فقام الحسنُ بن علي فتقدَّم فصلَّى بالناس ركعتين خفيفتين. ثم احتُمل عليٌّ إلى صحن المسجد وأحدق الناسُ به، فقالوا: مَن فعل هذا بك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا تعجلوا، فإنَّ الذي فعل بي هذا سيدخل عليكم الساعة من هذا الباب، وأومأ بيده إلى بعض الأبواب، قال: فخرج رجلٌ من عبد القيس في ذلك الباب فإذا هو بابن ملجم ..”([9]).

أقول: هذا النص كذلك صريح في أنَّ الإمام (ع) أُصيب في الصلاة، نعم هو ظاهرٌ في أنَّ ذلك وقع في صلاة النافلة. 

رواية صاحب البحار (رحمه الله):

وثمة رواية مفصَّلة نقلها العلامة المجلسي في البحار إلا أنَّه لم يذكر مصدرها، فهي صالحة للتأييد ورد فيها: “والروايةُ الصحيحة أنَّه -ابن ملجم- بات في المسجد ومعه رجلان: أحدهما شبيب بن بحيرة، والآخر وردان بن مجالد، يساعدانه على قتل عليٍّ (عليه السلام) فلما أذَّن (عليه السلام) ونزل من المئذنة، وجعل يُسبحُ الله ويقدِّسه ويُكبره ويُكثر من الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله، قال الراوي: وكان من كرم أخلاقه (عليه السلام) أنَّه يتفقَّد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة يرحمُك الله الصلاة، قم إلى الصلاةِ المكتوبة عليك، ثم يتلو عليه السلام: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾([10]) ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد، حتى إذا بلغ إلى الملعون فرآه نائمًا على وجهه قال له: يا هذا قم مِن نومك هذا فإنَّها نومة يمقتُها الله .. ثم تركه وعدل عنه إلى محرابه، وقام قائمًا يُصلِّي، وكان (عليه السلام) يُطيلُ الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضرًا قلبُه، فلما أحسَّ به فنهض الملعونُ مسرعًا وأقبل يمشي حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام (عليه السلام) يُصلِّي عليها، فأمهله حتى صلَّى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف و هزَّه، ثم ضربَه على رأسه المكرَّم الشريف، فوقعت الضربة على الضربة التي ضرَبه عمرو بن عبد ود العامري، ثم أخذت الضربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمَّا أحسَّ الامام (ع) بالضرب لم يتأوه وصبرَ واحتسب ..”([11]).

أقول: هذه الرواية متَّفقة مع سائر الروايات السابقة في أنَّ اغتيال الإمام (ع) قد وقع في أثناء أدائه للصلاة ولكنَّها تختلفُ عنها من جهة ظهورها في أنَّ ذلك وقع أثناء أدائه للنافلة.

مناقشة الروايات المعارضة:

وفي مقابل هذه الطائفة المستفيضة من الروايات والنصوص ثمة طائفةٌ أُخرى من الروايات أفادت أنَّ عمليَّة الاغتيال وقعت حين دخول أمير المؤمنين (ع) إلى المسجد عند السُدَّة فذكرت أنَّ شبيبًا بادر عليًّا (ع) بضربةٍ فأخطأته وأصابت عضادة الباب أو الطاق ثم إنَّ ابنَ ملجم رفع سيفَه وأهوى به على رأس أمير المؤمنين (ع) فأصابت قرنه.

وعمدةُ هذه الروايات التي تناقلها المؤرِّخون والمحدِّثون فبدا وكأنَّها القولُ المشهور في الواقعة عمدتُها رواية إسماعيل بن راشد، قال كما في تاريخ الطبري: “من حديث ابن ملجم وأصحابه أنَّ ابن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم، وقالوا ما نصنعُ بالبقاء بعدهم شيئا .. فقال ابنُ ملجم أنا أكفيكم عليَّ بن أبي طالب وكان من أهل مصر، وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكصُ رجلٌ منَّا عن صاحبه الذي توجَّه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسمُّوها واتَّعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أنْ يثبَ كلُّ واحدٍ منهم على صاحبه الذي توجَّه إليه .. فأمَّا ابنُ ملجم المرادي فكان عدادُه في كندة فخرج فلقيَ أصحابه بالكوفة وكاتَمهم أمرَه كراهة أنْ يظهروا شيئًا من أمره فإنَّه رأى ذات يومٍ أصحابًا من تيم الرباب وكان عليٌّ (ع) قتل منهم يوم النهر عشرة فذكروا قتلاهم، ولقيَ من يومِه ذلك امرأةً من تيم الرباب يُقال لها قطام ابنة الشجنة، وقد قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال، فلمَّا رآها التبستْ بعقله ونسيَ حاجته التي جاء لها، ثم خطَبها فقالت: لا أتزوَّجك حتى تشفى لي قال: وما يُشفيك قالت: ثلاثة آلاف، وعبدٌ، وقينة، وقتلُ عليِّ بن أبي طالب قال: هو مهرٌ لك، فأمَّا قتل عليٍّ (ع) فلا أراك ذكرتِه لي وأنت تُريديني قالت: بلى التمس غرَّته .. قال فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل عليٍّ فلكِ ما سألت قالت: إنِّي أطلب لك مَن يُسند ظهرك ويُساعدك على أمرك فبعثتْ إلى رجل من قومها من تيم الرباب يُقال له وردان فكلمته فأجابها .. وأتى ابنُ ملجم رجلًا من أشجع يُقال له شبيب بن بجرة، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك قال قتل عليِّ بن أبي طالب قال: ثكلتك أمُّك، لقد جئت شيئا إدَّا كيف تقدرُ على عليٍّ؟!! قال: أكمنُ له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه فإنْ نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا وإنْ قُتلنا فما عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، قال: ويحك لو كان غير عليٍّ لكان أهون، عليٌّ قد عرفت بلاءه في الاسلام، وسابقته مع النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما أجدُني أنشرحُ لقتله قال: أما تعلم أنَّه قتل أهل النهر العبَّاد الصالحين قال: بلى قال: فنقتله بمَن قتل من إخواننا فأجابه، فجاؤوا قطام وهى في المسجد الأعظم معتكفة، فقالوا لها قد أجمع رأينا على قتل عليٍّ (ع)، قالت: فإذا أردتم ذلك فأتوني ثم عاد إليها ابنُ ملجم في ليلة الجمعة التي قُتل في صبيحتها على سنة 40 فقال: هذه الليلة التي واعدت فيها صاحبَي أنْ يقتلَ كلُّ واحدٍ منَّا صاحبه، فدعت لهم بالحرير فعصبتْهم به، وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السُدَّة التي يخرجُ منها عليٌّ (ع) فلمَّا خرج ضرَبه شبيبٌ بالسيف فوقع سيفُه بعضادة الباب أو الطاق، وضرَبه ابنُ ملجم في قرنه بالسيف، وهرب وردان .. فلمَّا رأى الناس قد أقبلوا في طلبه وسيفُ شبيب في يده خشيَ على نفسه فتركه ونجا شبيبٌ في غمار الناس، فشدُّوا على ابن ملجم فأخذوه .. وتأخَّر عليٌّ(ع) ودفعَ في ظهر جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلَّى بالناس الغداة، ثم قال عليٌّ (ع): عليَّ بالرجل فأُدخلَ عليه ثم قال: أي عدوَّ الله ألمْ أُحسِن إليك؟ قال: بلى، قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذتُه أربعين صباحا ..”([12]).

أقول: هذا النصُّ هو الذي تناقلَه أكثرُ المؤرخين مسندًا أو بغير سند بألفاظٍ متطابقة أو متقاربة، فقد ذكره الطبري في تاريخه وابنُ الأثير في الكامل وابنُ الجوزي في المنتظم، والطبراني في المعجم الكبير، والخوارزمي في المناقب، وسبط ابن الجوزي في التذكرة، وابنُ كثير في البداية والنهاية، وابنُ خلدون في تاريخه وغيرهم([13])، ومرجعُ ذلك كلِّه إلى رواية إسماعيل بن راشد وهو مجهول -كما أفاد الألباني-([14]) ووصف الخبر بالضعيف المعضَل، ولا يعلم من أين أخذ هذه القصَّة، فهي كذلك مرسلة، ولذلك أفاد الهيثمي في مجمع الزوائد أنَّ اسناده منقطع([15]).

وبقطع النظر عن ذلك فإنَّ الرواية مشتملة على تفاصيل لا يُمكن تلقِّيها عن راوٍ واحد، فهي قصَّه ملفَّقة من أخبارٍ كثيرة يصعبُ التثبُّت من صحَّتها، فهي أشبهُ شيءٍ بالقصص التي يُتسامَر بها في المجالس، فهي أشبهُ شيءٍ بذلك منها بأخبار المؤرِّخين والمحدِّثين، ولولا خشية الخروج عن صلب البحث لأفضنا الحديث عن مواضع الوهن والتهافت في هذه القصَّة إلا أنَّه سوف نُشير إلى ما يُناسب موضع البحث، وهو ما اشتملت عليه الرواية من دعوى أنَّ الإمام (ع) قد تمَّ ضربُه حين دخوله للمسجد الأعظم من جهة السُدَّة، وهي الجهة المسقوفة من المسجد القريبة من موقف المؤذِّن وموقف الإمام للصلاة.

فالإشكال الأول: -مضافًا إلى ما تقدَّم- أنَّ هذه الرواية منافية للأخبار التي أوردنا بعضها والتي اتَّفقت على أنَّ الإمام (ع) قد تمَّ اغتياله وهو في الصلاة، وكذلك هي منافية للأخبار التي أفادت أنَّ الإمام (ع) بعد دخوله للمسجد الأعظم بادر كعادته إلى إيقاظ النائمين، وكان ابنُ ملجم ضمن المتظاهرين بالصلاة أو بالنوم فأيقظه الإمام (ع)، ومنافية أيضًا للأخبار التي أفادت أنَّه (ع) آذن بالصلاة.

فمِن ذلك ما أورده الباعوني الشافعي في جواهر المطالب قال: وعن التميمي بإسنادٍ له قال: لما تواعد ابنُ ملجم وصاحباه على قتل عليٍّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص دخل ابنُ ملجم المسجد (في بزوغ) الفجر الأول فدخل في الصلاة تطوُّعًا وافتتح القراءة وجعل يُكرِّر هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ﴾([16]) فأقبل عليٌّ رضي الله عنه وبيده مخفقة وهو يوقظُ الناس للصلاة ويقول: أيُّها الناس الصلاة الصلاة، فمرَّ بابن ملجم وهو يُكرِّر هذه الآية فظنَّ أنَّه يعيى فيها ففتح عليه فقال: ﴿وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ثم انصرف عليٌّ وهو يريد أنْ يدخل في الصلاة فتبعه (ابن ملجم) فضرَبه على قرنه ووقع (ذبابة) السيف في الجدار فأطار فدرةً من آجره ..”([17]).

فهذه الرواية صريحةٌ في أنَّ الإمام (ع) قد دخل إلى المسجد الأعظم فمرَّ على الناس يُوقظهم ويؤذنُهم بحضور وقت الصلاة، وكانت بيده مخفقة يُوقظ بها النائمين، ومرَّ على ابن ملجم وهو يتظاهر بالصلاة فقوَّم قراءته، وكلُّ ذلك يُناقضُ دعوى أنَّه ضرب أمير المؤمنين (ع) فورَ دخوله من السُدَّة. والروايات في دخوله وتصدِّيه لإيقاظ النائمين متعدِّدة.

ثم إنَّ رواية التميمي تُناسب الطائفة الأولى حيث أفادت أنَّ ابن ملجم ضرب الإمام وهو يُريد أنْ يدخل في الصلاة يعني أنَّه وقف في محرابه وموضع مصلَّاه واستقبل القبلة ولم تنفِ الرواية ولم تُثبت أنَّ ضربَه للإمام (ع) وقع قبل تكبيرته للإحرام أو بعدها وإنْ كان المناسب أنْ ينتظر به حتى يدخل في الصلاة لأنَّه حتمًا سيمشي متلطِّفًا ولن يشهر سيفه بل لن يُظهره حتى يصلَ قريبًا من ظهر الإمام (ع) خشية أنْ يلتفت إليه الإمام (ع) أو يلتفت إليه الحاضرون في المسجد، فالروايةُ يمكن عدُّها من الروايات الدالَّة على وقوع الاغتيال بعد دخول الإمام (ع) في الصلاة.

الإشكال الثاني: قوله: “وتأخَّر عليٌّ (ع) ودفعَ في ظهر جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلَّى بالناس الغداة” هذه الفقرة لا تستقيم مع دعوى مبادرة ابن ملجم ومَن معه إلى ضرب عليٍّ (ع) فور دخوله إلى سُدَّة المسجد، فإنَّ معنى “وتأخَّر عليٌّ (ع) ودفعَ في ظهر جعدة” أنَّه كان في محرابه مستقبلًا القبلة وأنَّ صفوف الجماعة ملتئمةٌ خلفه، حينئذٍ يصحُّ أنْ يُقال إنَّه (ع) قد تأخَّر عن موضع إمامة الجماعة ودفع في ظهر أحد المأمومين ليتقدَّم ويتم بهم الصلاة، وهذا إنَّما يناسب أنَّه أُصيب أثناء إقامته للصلاة، فحين وقعت عليه الضربة تأخَّر وقدَّم أحدَ المصلّيِن ليتمَّ بهم الصلاة، وهذا هو الموافق لمفاد الروايات التي تقدَّمت، بل إنَّ هذه الفقرة هي عين الفقرة التي وردت في النصِّ الثاني في رواية ابن أبي الدنيا في كتابه مقتل أمير المؤمنين (ع) والتي نصّت على أنَّ التأخُّر والدفع في ظهر الجعد بن هبيرة وقع بعد أنْ ضربه ابنُ ملجم في الصلاة، فالراوي قد أستعار ذيل هذه الرواية وغفل عن أنَّه لا يستقيم مع ما ذكره في صدر حديثه، بمعنى أنَّ الراوي قد فاته ذلك، فلم يُوفَّق لحبك فِريته كما ينبغي.

الإشكال الثالث: إنَّ مفاد القصَّة المذكورة هو أنَّ ابن ملجم حين ضربَ عليًّا (ع) كان مواجهًا للإمام، وهو في غاية البُعد فهو أجبنُ مِن أنْ يُواجَه عليًّا (ع) وجهًا لوجه، فهيبةُ عليٍّ (ع) وتأريخه في الحروب تمنعُه من الإقدام على هذه المجازفة خصوصًا وأنَّه حريصٌ على نجاح مهمَّته، ولهذا خطَّط لها طويلًا وخطَّط لها معه آخرون، فكيف يُواجه عليًّا(ع)، وهو يحتمل قويًّا -على أقلِّ تقدير- أنْ يتمكَّن عليٌّ (ع) من الروغان عن ضربته وإمساكه.

ثم إنَّ مقتضى مفاد القصَّة هو إمَّا أنْ يكون ابنُ ملجم شاهرًا سيفه قبل أنْ يدخل الإمام (ع) إلى المسجد وهو مستحيل لأنَّه لا يدري من سيدخل ثم إنَّه سيُفتضح أمرُه لو فعل ذلك قبل أنْ يُنجِز مهمَّته، لذلك يتعيَّن أنْ يكون قد شهَرَ سيفه بعد أنْ دخل الإمامُ عليٌّ (ع) من السُدَّة كما هو ظاهر الرواية، وهذا معناه أنَّ ابنَ ملجم اقترب من السدَّة وأخرج سيفَه من تحت ثيابه بعد أنْ رأى أمير المؤمنين (ع)، وسلَّ سيفه من غمده لأنَّه كان مسمومًا -كما نصَّت الرواية- فلا يُمكن أن يكون قد سلَّه قبل رؤيته للإمام (ع) وهذا يقتضي أنْ يلتفت عليٌّ (ع) قبل أنْ يهوي عليه بالسيف، فعليٌّ (ع) كان رجلَ حرب، وكان يتوقَّع الاغتيال، وكان معروفًا بالحذر وأنَّه كان -كما وصفته الروايات- لفوتًا، فما أيسر أنْ يروغ عن الضربة وأنْ يدفع عن نفسِه بالمخفقة -العصا- التي كانت بيده وكلُّ ذلك لم يقع بحسب الرواية، فالمشهد الذي ترسمُه الرواية غير قابلٍ للقبول.

إشكالٌ وجواب:

قد تقول: لماذا لا يُفترض أنَّ عليًّا (ع) كان غافلًا ذاهلًا فباغته ابنُ ملجم؟

الجواب: هو أنَّه بقطع النظر عمَّا نعتقدُه في أمير المؤمنين (ع) فإنَّه لا مجال للغفلة في المشهد الذي ترسمُه الرواية فإنَّ رجلًا يعترضُ آخر في وجهه ويُخرِج السيف من تحت ثيابه ثم يسلُّه مِن غمده ويرفعه لا يُمكن أنْ يُفترض معه غفلة الطرف المقابل، ولو سلَّمنا جدلًا إمكانيَّة غفلة عليٍّ (ع) فإنَّ المفترض في ابن ملجم أنَّه كان حريصًا على نجاح مهمَّته وأنَّه خطَّط لها طويلًا كما يُشير لذلك شحذه لسيفه وسمِّه له شهرًا أو أربعين يومًا كما نصَّت على ذلك العديد من الروايات ومنها هذه الرواية، فهو قد خطَّط لها طويلًا حرصًا على نجاح مهمَّته، وخطَّط لها معه آخرون منهم الأشعث بن قيس الخبير المجرِّب وغيرُه كما نصَّت على ذلك الكثير من الروايات، وكانوا على علمٍ أنَّ عليًّا (ع) يتوقَّع الاغتيال في أيِّ لحظة كما صرَّح بذلك في مواضع كثيرة على منبر الكوفة وغيره، فهم يتوقعون منه المحاذرة وذلك ما يستوجب الإحكام لخطَّة الاغتيال خشية الفشل، فلم تكن العمليَّة ارتجالية، وذلك يقتضي استعراض العديد من الخيارات ثم انتخاب الخيار الذي يكون معه احتمال النجاح راجحًا، ومن البديهي أنَّ هذا الخيار هو أبعدُ الخيارات من النجاح، ولم يكن ابنُ ملجم أهوجًا أو مضطرًا إلى هذا الخيار.

فهو أبعدُ الخيارات من النجاح لأنَّ احتمال أنْ يكون مع عليٍّ (ع) من يرافقه ورادٌ -وهو كذلك كما نصَّت الروايات أنَّ معه حال دخوله الإمام الحسن (ع) وابن التيَّاح المؤذن- وهو أبعدُ الخيارات من النجاح لأنَّ احتمال تنبُّه عليٍّ (ع) لعمليَّة الاغتيال واردٌ بل هو في غاية القُرب، واحتمال تمكُّنه من الروغان أيضًا في غاية القُرب فهو فارسٌ ممارسٌ لا يرتاب في ذلك مِن أحد، هذا مضافًا إلى هيبته وتأريخه حيث لم يتَّفق أنْ واجهه أحدٌ فتمَّكن منه منذُ أنْ بات على فراش رسول الله (ص) يوم الهجرة إلى أنْ رحل إلى ربِّه بل لم يسلم من أحدٍ شهرَ السيف في وجهه إلا رجلٌ كشف عن عورته، فمثلُ هذا التأريخ الطويل يمنع من اعتماد هذا الخيار ويحول دون الجرأة الكافية على المواجهة وهو ما يعني المجازفة غير القابلة للتكرار، وكلُّ ذلك يُوهِن من صحَّة الرواية والروايات المشابهة ويُؤكِّد في ذات الوقت على صحَّة الروايات التي أفادت أنَّ اللئيم أخزاه الله تعالى قام بعمليَّة الاغتيال والإمام (ع) في حال الصلاة مستقبلًا القبلة مشغولًا بربِّه جلَّ وعلا.

قرينةٌ أخرى على وهْنِ هذه الرواية:

ثم إنَّ هنا قرينةً عامَّة وسيَّالة تُوجبُ الارتياب في صدق هذه الرواية والروايات المشابهة وهي أنَّ المؤرِّخين والمحدِّثين قد جرتْ عادتهم -كما هو واضحٌ للمتابع- على التوهين والتقليل من شأن أيِّ منقبةٍ ثبتتْ للإمام عليٍّ (ع) فإنْ أُتيح لهم نفيها والتنكُّر لها والتعمية عليها وإلا عملوا على تصغيرها وتشذيبها، ومن الواضح أنَّه لا تطيبُ نفوسُهم في أنْ يُستشهَد عليٌّ (ع) وهو في الصلاة فيكون بذلك أوَّلَ شهيدٍ من الصحابة في الإسلام يُقتل في محراب الصلاة، فيكفيه بنظرهم أنْ تكون شهادته في المسجد ولو تهيأ لهم إنكار ذلك لفعلوا، ويؤكِّد ذلك إغفال الكثير من المؤرِّخين ذكر شيء من الروايات التي نصَّت على أنَّه (ع) قُتل في الصلاة رغم وجودها كما أكَّد على ذلك ابنُ عبد البر في الاستيعاب وغيره ورغم تعدُّدِها وكونها مسندة بل هي أصحُّ سنداً وأوفق بالاعتبار العقلائي من الروايات الأخرى لكنَّها لا تُوافق هوى هؤلاء المؤرِّخين.

فهذه القرينة يعرفُ المتابِع العارف بدخائل الناس وما عليه مؤرِّخوهم ومحدِّثوهم من التابعين وتابعي التابعين وما تقتضيه الخصومات المذهبيَّة والأحوال السياسيَّة وما فرضه الحكَّام وأجهزتهم على امتداد قرون، يعرفُ المتابع أنَّ هذه القرينة هي من أقوى القرائن التي تُوجب ترجيح الطائفة الأولى من الروايات والتي نصَّت على أنَّ عليًّا (ع) قُتل في الصلاة، وتُوجب في ذات الوقت الارتياب في صدق ما تناقله المؤرِّخون من أنَّ عمليَّة الاغتيال وقعت حين دخوله للمسجد، ونستطيع القول إنَّ كلَّ خبرٍ أوردَه العامَّة تضمَّن منقبةً لعليٍّ (ع) فقابلته أخبارٌ أخرى تُقلِّل من شأن تلك المنقبة نستطيعُ القول إنَّ تلك الأخبار مختلقة يُراد بها التشويش على ما ثبتَ لعليٍّ (ع) من منقبة.

وكيف كان فإنَّ هذه القرينة إذا انضمَّت إلى القرائن الأُخرى التي ذكرناها بإيجازٍ شديد يحصل الاطمئنان للباحث أنَّ الصحيح هو ما أفادته الروايات من أنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) قد قُتل وهو في الصلاة وأنَّ ما ذكرته الروايات الأخرى لا تصحُّ بل هي مكذوبة.

روايةُ أبي البختري مكذوبة:

بقي في المقام رواية أوردها الحميري في قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه: “أنَّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) خرج يُوقظ الناس لصلاة الصبح، فضربَه عبدُ الرحمن بن ملجم بالسيف على أمِّ رأسه، فوقع على ركبتيه، وأخذه فالتزمه حتى أخذه الناس ..”([18]).

ويكفي لسقوط هذه الرواية عن الاعتبار أنَّ راويها أبو البختري وهب بن وهب القرشي العامِّي والذي وصفَه أبو محمد الفضل بن شاذان بقوله: “كان أبو البختري من أكذب البريَّة”([19]).

وقال عنه النجاشي في رجاله: “وهب بن وهب بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى أبو البختري. روى عن أبي عبد الله عليه السلام، وكان كذَّابا، وله أحاديث مع الرشيد في الكذب”([20]).

وقال عنه الشيخ الطوسي في الفهرست: “وهب بن وهب، وكان قاضي القضاة ببغداد من قبل الرشيد، وكان ضعيفًا”([21]). وقال في موضع آخر من كتابه: “وهب بن وهب، أبو البختري، عامِّيُ المذهب، ضعيف”([22]).

فهذه الرواية تقعُ في سياق الروايات الأخرى التي أوردها مؤرِّخو العامَّة ويردُ على هذه الرواية ما أوردناه عليها مضافًا إلى كونها شديدة الضعف نظرًا لكون راويها كذَّابًا بل كان من أكذب البريَّة كما أفاد الفضل بن شاذان (رحمه الله).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

11 / شهر رمضان / 1442هـ

24 / أبريل / 2021م



المصدر


اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد