واستمراراً لما كتبناه في المقالات الاربع الماضية نقول إن الألفاظ الواردة في الآيات القرآنية لها معانٍ تتجاوز مجرد المعنى الظاهري اللغوي المتعارف، وهذا شيء بَدَهِيّ، وهو ما نجده واضحاً بيناً في مئات الكلمات بل ربما آلاف المفردات والأسماء والأفعال والصفات في شتى السور والآيات، ومن المستغرب حقاً أن نجد بعض الاشخاص يجادل في هذه الحقيقة الماثلة ليس في آية أو اثنتين أو مئة أو مئتين، بحيث لم يعد بالإمكان إنكارها مطلقاً.
ولا بد قبل كل شيء أن نتعرف أولاً على معنى (الحقيقة) و(المجاز).
فالحقيقة: هي اللفظ المستعمل في المعنى الموضوع له، مثل قوله تعالى:
﴿الحمد لله رب العالمين﴾ [الفاتحة/2]
و﴿وإلهكم إله واحد﴾ [البقرة/163]
و﴿صوّركم فأحسن صوركم﴾ [غافر/64]
و﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًاً﴾ [النبأ/8]
و﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [النساء/92]
… وغيرها.
والمجاز: هو اللفظ المستعمل في المعنى غير الموضوع له.
أنظر إلى الآيات الكريمة:
﴿“يَدُ” اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح/10]
﴿وتَحْرِيرُ “رَقَبَةٍ” مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء/92]
﴿إِنَّ الَّذِينَ “يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ” الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا “يَأْكُلُونَ” فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء/10]
﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ “أَعْمَىٰ” فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ “أَعْمَىٰ” وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء/72]
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا “بِأَييْدٍ” وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات/47]
﴿فَمَن يَعۡمَلۡ “مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ” خَيۡرࣰا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ “مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ” شَرࣰّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة/8،7]
﴿“وَقَطَّعْنَاهُمُ” اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ [الأعراف/160]
… وغيرها كثيرة.
وهنا لابد من الاشارة الى أن كلام العرب؛ شعراً كان أم نثراً، قديماً وحالياً، مليءٌ بالمجاز والاستعارة، لكننا نعرض عن نشر آلاف الأبيات الشعرية للشعراء، لئلا يطول بنا المقام ويقع الملال من المقال.
ولا يمكن أن تكون كل الكلمات الواردة في القرآن حقيقية، فالمجاز واقع في كل سورة من السور الـ 114 في القرآن، فيما عدا آيات الصفات.
فهل تجد تعابير حقيقية في الآيات التالية أم انها مجازية:
﴿هنّ “لباسٌ” لكم وأنتم “لباسٌ” لهنّ﴾ [البقرة/187]
﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا “أُفٍّ” وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ☆ وَاخْفِضْ لَهُمَا “جَنَاحَ” الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الاسراء/23،24]
﴿وَاسْأَلِ “الْقَرْيَةَ” الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ”الْعِيرَ” الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [يوسف/82]
﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ “سَبْعِينَ مَرَّةً” فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة/80]
﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة/185]
﴿فَلْيَدْعُ “نَادِيَهُ”﴾ [العلق/17)
﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارࣰا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف/77]
… وغيرها.
ومن طريف ما قيل إن الشيخ الفقيد الدكتور أحمد الوائلي عميد المنبر الحسيني عندما شارك في مؤتمر القاهرة للمذاهب الاسلامية عام 1978 سمع من يقول بأن القرآن نزل على النبي محمد (ص) بأسلوب سهل وبسيط، وبلغة عربية، وكل شخص يستطيع فهمه وتفسيره ولا يحتاج إلى تفسير باطني وتفسير ظاهري كما يفعل الشيعة، ونظر الشيخ الوائلي إلى شيخ يجلس قربه في المؤتمر فقال للمؤتمرين: طيب، كما تشاؤون، من اليوم لن نفسر القرآن تفسيرين: باطني وظاهري، بل نأخذ الآية كما هو منطوقها وظاهرها، وعلى هذا الأساس كيف سمحتم لهذا الأعمى أن يكون معنا في مؤتمر (إسلامي)؟!
فقالوا له: إن هذا الرجل الأعمى هو رئيس وفد الدولة الفلانية وهو عالم ومفتي إسلامي.
فقال الوائلي:
ولكن الله قال لنا في كتابه العزيز: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
وبناء على ظاهر الآية فإن هذا الأعمى من أهل النار!
فقالوا: لا، إن هذا تعبير مجازي، والمقصود به أعمى القلب الذي لم يدخل الإيمان إلى قلبه.
فقال (ره): نعم، وهذا هو التفسير الباطني والتعبير المجازي الذي تستنكرونه منا وتسمونه (التفسير الباطني).
ثم إنه (ره) أورد بالقول المشهور: إن الكعبة بيت الله، وقال: أو ليس الله موجوداً في كل مكان ﴿ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ فلماذا تصفون مكاناً خاصاً مكعب الشكل محدود المساحة بأنه بيت الله؟! وهل يمكن أن يستوعبه بيت؟!
ورغم أنني لم أعثر على مصدر او كتاب موثق لهذه القصة بَيد أنني أوردتها من باب الشيء بالشيء يذكر، ودليلاً آخر على وجود التعبير المجازي في القرآن. وبعضهم يزعم أن القصة وقعت بين السيد محسن الحكيم والشيخ الضرير عبد العزيز بن باز في بلاط الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود عام 1968 [وكالة براثا].
وللمزيد حول [المجاز في القرآن] يمكنكم مراجعة:
■ المعجم المفصل في الادب/ د. محمد التونجي.
■تهذيب البلاغة – المجمع العلمي الإسلامي ومنظمة الاعلام الاسلامي.
■موسوعة أساليب المجاز في القرآن الكريم – دراسة ووصف/ د. أحمد حمد محسن الجبوري.
■مجاز القرآن/الشيخ أحمد فريد المزيدي، أبي عبيدة معمر/ ابن المثنى التيمي.
بقلم: د. رعد هادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.