يبدو أن التمييز بين الاختلافات العقدية الناجمة عن اسباب معرفية واجتماعية وتلك المنبثقة عن أسباب نفسية وأخلاقية عامل حاسم في اتخاذ الموقف الصحيح والصائب من التعدد العقدي داخل الامة الاسلامية وخارجها، وتظهر أهمية هذا العامل عند تحليل موقف القرآن الكريم من الجماعات المخالفة عقدياً، فقد نزلت رسالة السماء لإعادة صياغة الحياة الانسانية تبعاً للمبادئ الالهية السامية، واصلاح الممارسات الفردية والجماعية وضبطها وفق معايير الحق والصواب. على ضوء ذلك عمل النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” كما عمل الانبياء من قبله، الى بناء تصور كلي مرتكز على مبدأ التوحيد ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾([1]).
وعليه استشعرت قيادات قريش خطر الدين الجديد على مصالحها وامتيازاتها، فلجات الى القهر والتنكيل وتكميم الافواه من جهة، واعتمدت أساليب التضليل والتعتيم الاعلامي من جهة اخرى لتحول دون انتشار الدين الجديد وتمنع وصول رسالة السماء الى آذان الناس وقلوبهم([2]). ولذلك استمر اضطهاد قريش لرسالة السماء الى ان منّ الله تعالى على المسلمين بالمواقع المسورة في المدينة في صراع مسلح مع الوثنيين. يبدو ان الصراع العسكري الدموي الناشب بين الاسلام والوثنية يعود بالدرجة الاولى الى الطبيعة العدوانية للثقافة الوثنية، حيث تظهر الجذور الثقافية والقيمية للصراع بين المدينة وقريش بسبب التجربة الاسلامية الاولى المتمثلة في النظام الاسلامي السياسي في المدينة قد تم تأسيسه على قاعدة التعايش السلمي والتعاون بين المسلمين واليهود، واحترام مبدأ التعدد العقدي الذي اسسه القرآن الكريم وأمر به([3]). اضف على ذلك، ان مبدأ حرية الاعتقاد هو الاساس الذي يرتكز عليه موقف القرآن الكريم ، وان الحوار والحجة هما الوسيلة التي اختارها الوحي لدعوة اصحاب العقائد غير الاسلامية الى الاسلام، فالسلاح الاسلامي ليس موجهاً الى الفكر العقدي المغاير، بل الى العدوان الفعلي الذي يمارسه البعض ضد مبدأ حرية العقيدة، وحرية الدعوة اليها([4]).
ومن خلال هذا يتضح لنا العلاقة التكاملية بين آيات السيف في سورة براءة التي تأمر المسلمين بقتال المشركين ، وآيات السلم وحسن المعاملة لغير المسلمين، وان اغلب آيات القتال موجهة الى الثقافة الوثنية التي بررت الحرب والقتال لتحقيق مكاسب مادية، فقتال المشركين كافة يعود في الاعتبار الاول الى اضطهاد الوثنية للدين الاسلامي الحنيف واعتدائها على مبدأ حرية العقيدة ،اذ يؤكد القرآن الكريم في قوله على ذلك ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾([5]). هنا بدأت مرحلة جديدة في الدفاع عن الاسلام والجهاد ضد القوى الوثنية، بعد أن أذن الله لنبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” بالقتال في قوله تعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾([6]) .
هناك حقيقة تاريخية الا وهي، ان معركة أحُد تمثل اقوى صراع مسلح مع مشركين قريش، اذ وقعت هذه المعركة في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وكان سببها الرئيسيّ؛ هو حنق ومقت كفار قريش للنبي الاكرم “صلى الله عليه واله” فضلا عن نتائج معركة بدر، ولم يكن لدى ابي سفيان غير التفكير بالحرب ومعاودة الهجوم على المدينة بدافع الثأر ومحو العار، وتحقيق نصر عسكري.
فدقّ الوثنيون طبول الحرب وخططوا للهجوم على المدينة، فزحفوا باتجاهها وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل، فعرف النبي الاكرم ” صلى الله عليه وآله” بمسيرهم عن طريق العباس بن عبد المطلب الذي أرسل اليه من مكة بذلك، فاعلن النبي الاكرم ” صلى الله عليه وآله” التعبئة العامة بين صفوف المسلمين استعداداً للدفاع عن الاسلام، فقرر مواجهة العدو خارج المدينة، فخرج النبي الاكرم ” صلى الله عليه وآله” بألف مقاتل، ورسم النبي الاكرم” صلى الله عليه وآله “خارطة المعركة، وحدَّد مواقع جيشه ووضع مجموعة من الرماة خلف الجيش وأوصاهم بالثبات وعدم ترك أماكنهم وأكد على ذلك حتى أوصاهم بان يلزموا مراكزهم ولا يتركوها حتى في حالة النصر أو الهزيمة، قائلا :” أحموا ظهورنا، فان رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا وان رأيتمونا قد غنمنا فلا تشاركونا”([7]) .
وبدأت الحرب بين الجانبين، فكان النصر حليف المسلمين لما انهزم الوثنيون من المعسكر، وانشغلوا بجمع الغنائم فلما رآهم الرماة – الذين أوصاهم الرسول بعدم ترك اماكنهم- قال بعضهم لبعض: لم تقيمون هنا في غير شيء لقد هزم الله العدو وهؤلاء اخوانكم مشغولون بجمع الغنائم فاذهبوا واغنموا معهم فقال بعضهم : ألم تعلموا أن رسول الله “صلى الله عليه وآله ” قال لكم: احموا ظهورنا وإن غنمنا فلا تشركونا فقال الآخرون: لم يرد رسول الله هذا، وأخيراً ذهبوا الى معسكر المشركين يجمعون الغنائم وتركوا أماكنهم من الجبل([8]).
لقد اصيب المسلمون بفعل النكسة في أحُد بصدمة عنيفة وحزن عميق، وشعروا بالضعف والاحباط حتى كاد اليأس يتسرب الى البعض والشك الى البعض الاخر. ولقد وصف القرآن هذه المعركة وصفاً دقيقاً منها في قوله: ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾([9])، ان الاسباب التي أدت الى فشل المسلمين في معركة أحُد وما يمكن أن نستفيد من هذه التجربة كثيرة منها :
أثر المعاصي في النصر والهزيمة: في معركة أحُد ظهر اثر المعصية والفشل والتنازع في تخلف النصر عن الامة، فبسبب معصية ومخالفة الرماة امر النبي محمد في المعركة وبسبب التنازع والاختلاف حول الغنائم ذهب النصر عن المسلمين بعد ان انعقدت اسبابه، ولاحت بوادره فقال الله تعالى ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾([10]) .
خطورة ايثار الدنيا على الاخرة : هذه المعركة تعلمنا كذلك ايثار الدنيا على الاخرة وان ذلك مما يفقد الامة عون الله ونصره وتأييده، يروي ابن عباس رواية قائلاً: لما هزم الله المشركين يوم أحُد، قال الرماة: “ادركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم الى الغنائم، فتكون لهم دونكم” وقال بعضهم:” لا نبرح حتى يأذن لنا النبي”([11]) فنزلت ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾([12]). يبدو ان في ذلك درس عظيم يبين أن حب الدنيا والتعلق بها قد يتسلل الى قلوب أهل الايمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، فأثروها على ما عند الله مما يوجب على المرء ان يتفقد نفسه وان يغتش في خباياها، وان يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه([13]).
سنة الله في الصراع بين الحق والباطل: كانت معركة أحُد تأكيد لسنة الله في الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فقد جرت سنة الله في رسله وأتباعهم أن تكون الحرب سجالاً بينهم وبين أعدائهم، فيدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، ثم تكون لهم العاقبة في النهاية، ولئن تنفس الباطل يوماً وكان له صولات وجولات، الا أن العاقبة للمتقين، والغلبة للمؤمنين﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾([14]) .
كيفية معالجة الاخطاء: اشار القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في معركة أحُد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان اسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر، فقال في معركة بدر ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ([15]) بينما اشار في معركة أحُد ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾([16]) يبدو ان في هذه حكمة علمية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه.
تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم معركة أحُد: يقول الله تعالى ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾([17])، يؤكد محمد جواد مغنية في كتابة الكاشف على هذه الآية المباركة يقول : “هنا بين الله تعالى لهم أن الجروح والقتلى يجب الا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما اصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فاذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب فبان لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق”([18]) .
نستنتج من ذلك ان الانضباط والتقيد بأوامر القائد وتوجيهاته مهما كانت الظروف، فأن الانضباطية خصوصاً حين يكون القائد حكيماً هي أساس النجاح والانتصار، وربما تكون مخالفة أفراد معدودين، سببا في دمار جيش بكامله، كما كان الحال في معركة أحُد، فان من الواضح ان السبب الاول للهزيمة يعود الى تهاون الرماة في تنفيذ الاوامر، واختلافهم وعصيانهم لنبي الاكرم طمعاً في الدنيا وايثار لها على الاخرة.
جعفر رمضان
([1] ) سورة الانبياء : الآية 25.
([2] ) لؤي صافي، العقيدة والسياسة “معالم نظرية عامة للدولة الاسلامية”،ط1، ( فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الاسلامي،1996)، ص75-76.
([3]) لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام ، السيرة النبوية، ( بيروت: دار الفكر، بلا . ت)، ج1، ص4-5.
([4] )لؤي صافي، المصدر السابق، ص76.
([5]) سورة التوبة : الآية 36.
([6] ) سورة الحج : الآية :39.
([7]) عماد الدين ابي الفداء اسماعيل بن كثير ، تفسير القرآن العظيم، تحقيق مصطفى السيد محمد واخرون، ( جيزة: مؤسسة قرطبة، 2000) ج3، ص210.
([8]) شبكة المعلومات الدولية، (www.alimamali.com)
([9]) ال عمران : الآية 179.
([10] )سورة القصص: الآية 40.
([11]) للمزيد من التفاصيل حول الموضوع ينظر: محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، بيروت :دار المعارف،)، ج9، ص
([12]) سورة آل عمران، الآية 14.
([13] ) عبد العزيز بن عبد الله الحميدي، السيرة النبوية مواقف وعبر، ط2، ( الاسكندرية: دار الدعوة، بلا . ت)، ص25.
([14])سورة آل عمران، الآية 142.
([15]) سورة الانفال: الآية 67
([16]) سورة القصص: الآية 40.
([17]) سورة آل عمران، الآية 140.
([18] ) محمد جواد مغنية، تفسير الكاشف، ط4،(بيروت: دار الانوار،2009)، مجلد الثاني، ص163-164.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.