تقييم رواية السَّرْج المسموم | مركز الهدى للدراسات الإسلامية

0
12







تقييم رواية السَّرْج المسموم

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما مدى صحَّة ما يتناقلُه البعضُ من أنَّ استشهاد الإمام الباقر (ع) كان من طريق سرجٍ مسموم بُعث إليه فحين استعمله سرى السُمُّ من السرج إلى جسده فتورَّم، فكان ذلك سبب استشهاده (ع)؟

الجواب:

استشهاد الباقر (ع) في عهد هشام بن عبد الملك:

المعروف بين الإماميَّة أنَّ الإمام الباقر (ع) قد استُشهد بعد أنْ دسَّ إليه هشامُ بن عبد الملك السُّمَّ، وقيل إنَّ الذي دسَّ إليه السُّمَّ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، وإذا صحَّ القول الثاني فهو بمعنى أنَّ إبراهيم بن الوليد هو مَن تولَّى دسَّ السُمِّ إلى الإمام (ع) لا أنَّ الإمام (ع) قد استُشهد في عهده، فإنَّ إبراهيم بن الوليد قد تولَّى الخلافة الأمويَّة سنة سبعة وعشرين ومائة وتمَّ عزله بعد هزيمته من قِبَل مروان الحمار بعد مدَّةٍ يسيرة من خلافته، فلو كان هو مَن دسَّ إلى الإمام (ع) السُمَّ فلا بدَّ من أنَّ ذلك قد وقع في عهد هشام، لأنَّ استشهاد الإمام (ع) كان فيما بين سنة أربعة عشر ومائة وبين ثمانية عشر ومائة على أبعد التقادير، وفي هذا الوقت كان خليفةُ الدولة الأمويَّة هشام بن عبد الملك والذي امتدَّت خلافته إلى سنة خمس وعشرين ومائة للهجرة.

حاصل ما ورد في رواية السَّرْج المسموم:

وأمَّا دعوى أنَّ السُمَّ قد دُسَّ إلى الإمام (ع) من طريق سرجٍ أُهدي إليه، وأنَّه بعد أنْ أُسرِج به على دابَّته واستوى عليها تورَّم جسدُه الشريف واستُشهد متأثرًا بذلك السُمِّ بعد ثلاثة أيَّام، هذه الدعوى لم أجد أحدًا من علمائنا الأعلام قد تبنَّاها، وليس لهذه الدعوى مستندٌ سوى روايةٍ أوردها -مرسلةً- قطبُ الدين الراوندي (رحمه الله) في كتابه الخرائج والجرائح عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) وحاصل ما اشتملتْ عليه هذه الرواية:

أنَّ زيدًا ابن الإمام الحسن المجتبى ادَّعى أنَّه الأحقُّ بتولِّي ميراث النبيِّ (ص) أي أنَّه ادَّعى الأحقيَّة بالولاية على الصدقات الجارية للنبيِّ (ص) فاختصم في ذلك مع الإمام أبي جعفرٍ الباقر(ع) عند قاضي المدينة إلا أنَّ الإمام الباقر (ع) بعد الخروج من مجلس الخصومة أخذَ من زيدٍ عهدًا أنَّه إذا أظهرَ له بعض الكرامات أنْ يتخلَّى عن دعواه ويُقِرَّ للإمام (ع) بالأحقيَّة فعاهده زيدٌ على ذلك وحلف له أن يتخلَّى عن مخاصمته، فأظهَرَ له الإمامُ (ع) العديدَ من الكرامات فارتاع زيدٌ من ذلك ثم حلف أنْ لا يعرُض لأبي جعفر (ع) ولا يُخاصمُه إلا أنَّه لم يفِ بعهده، فبعد أنْ انصرف من عند الإمام (ع) خرج من يومِه إلى الشام قاصدًا عبد الملك بن مروان يبتغي الوشاية والإغراء بالإمام أبي جعفر (ع) فدخل على عبد الملك بن مروان، وقال له: “أتيتُك من عند ساحرٍ كذَّابٍ لا يحلُّ لك تركُه، وقصَّ عليه ما رأى، فقال عبدُ الملك لزيد: “أرأيتُك إنْ ولَّيتُك قتله تقتلُه؟ فقال زيدٌ: نعم” فكتب عبدُ الملك إلى عامل المدينة: “أنِ ابعث إليَّ بمحمَّدِ بن عليٍّ مقيَّدًا”.

إلا أنَّ عامله على المدينة كتب إليه ينصحُه بعدم التعرُّض للإمام (ع) بسوءٍ وذكرَ له أنَّ الإمام أبا جعفر (ع) مشغولٌ بالعبادة وهو من أزهد الناس وأورعِهم وأعلمِهم، فقبِل عبدُ الملك بنصيحة عامله، واجتهد زيدٌ بعدها في الوشاية والإغراء بالإمام (ع) إلا أنَّ محاولاتِه باءت بالفشل بل إنَّ عبد الملك “أخذ زيدًا وقيَّده وبعثَ به إلى أبي جعفرٍ الباقر (ع) وكتب إليه: “إنِّي بعثتُ إليك بابن عمِّك فأحسِنْ أدبَه. فلمَّا أُتي به أطلقَ عنه وكساه”.

“ثم إنَّ زيدًا ذهب إلى سرجٍ فسمَّه، ثم أتى به إلى -أبي جعفرٍ(ع)- فناشدَه إلا ركبتَ هذا السرج، فقال له -أبو جعفر(ع)-: ويحكَ يا زيد، ما أعظمَ ما تأتي به، وما يجري على يديك، إنِّي لأعرفُ الشجرةَ التي نُحتَ منها، ولكنْ هكذا قُدِّر، فويلٌ لمَن أجرى اللهُ على يديه الشرَّ، فأُسرج له، فركِب -الإمام (ع)- ونزل متورِّمًا، فأمر بأكفانٍ له وكان فيها ثوبٌ أبيض أحرمَ فيه، وقال: اجعلوه في أكفاني، وعاش ثلاثًا، ثم مضى (عليه السلام) لسبيلِه، وذلك السرجُ عند آل محمَّدٍ معلَّق. ثم إنَّ زيد بن الحسن بقيَ بعده أيَّامًا، فعرَض له داءٌ، فلم يزلْ يتخبَّط ويَهذي وترَكَ الصلاة حتى مات”(1).

سقوط الرواية سندًا ومتنًا عن الاعتبار:

هذا هو حاصل ما اشتملتْ عليه الرواية التي أوردها قطبُ الدين الراوندي (رحمه الله) في كتابه الخرائج والجرائح وهي بقطع النظر عن الإشكال في سندها حيث أوردها مرسلةً دون أنْ يذكر طريقه إليها، فبقطع النظرِ عن ذلك فإنَّ الرواية غيرُ قابلةٍ للتصديق، فإنَّها تتحدَّث عن أنَّ الخصومة بين الإمام الباقر (ع) وبين زيد بن الحسن قد وقعتْ في عهد عبد الملك بن مروان وأنَّ الإمام (ع) قد استُشهد في عهده، وذلك مقطوع البطلان، فإنَّ عبد الملك بن مروان قد ماتَ سنة ستة وثمانين للهجرة أي قبل وفاة الإمام زين العابدين (ع) بما يقرب من العشر سنين وحينها كان عمرُ الإمام الباقر(ع) قرابة الثلاثين سنة أو أقل ولم يطَّلعْ بعدُ بدور الإمامة، إذ أنَّه نهض بأعباء الإمامة سنة خمس وتسعين للهجرة بعد استشهاد الإمام زين العابدين (ع) أي في نهاية عهد الوليد بن عبد الملك، ولهذا فالرواية كما أفاد السيِّد الخوئي (رحمه الله) في المعجم مفتعلة(2) أي مكذوبة.

ومحاولة البعض ترقيعها بالقول إنَّ من المحتمَل وقوع الاشتباه من النسَّاخ، فالمقصود من الخليفة الأمويِّ الذي لجأ إليه زيد بن الحسن هو هشام بن عبد الملك إلا أنَّ النساخ أخطأوا فأسقطوا اسم هشام.

هذه المحاولة لا تتم فإنَّ احتمال وقوع الخطأ والسقط من النسَّاخ في غاية البُعد، فإنَّ اسم عبد الملك قد ورد في الرواية في ستَّة مواضع، ومن غير المقبول احتمال وقوع السقط والاشتباه من النسَّاخ في تمام المواضع الستَّة خصوصًا وأنَّ السقط بناءً على هذا الاحتمال سوف يكون لكلمتين وهما (هشام وابن) واتَّفاق سقوط الكلمتين في تمام المواضع الستة من الرواية لا يُمكن تعقُّله.

هذا وقد أورد ذات الرواية -دون سندٍ أيضًا- ابنُ حمزة الطوسي في كتابه الثاقب في المناقب(3) وفيها أيضًا أنَّ الواقعة حدثت في عهد عبد الملك وأنَّ زيدًا لجأ إلى عبد الملك وليس إلى هشام وهو ما يُعزِّز أنَّ الاشتباه ليس من النساخ وإنَّما هو من صانع الرواية، نعم لم يذكر ابنُ حمزة الطوسي الفقرة الأخيرة المتضمِّنة لتسميم زيدٍ للسرج وإهدائه للإمام (ع) واستشهاده متأثرًا بذلك السرج المسموم، وذكر أنَّه أخذ موضع الحاجة من الحديث، ففقرة التسميم لم نقف عليها إلا في كتاب الخرائج المتأخِّر صاحبُه عن ابن حمزة (رحمه الله).

ثم إنَّ هنا عددًا من المُوهِنات للرواية مضافًا لما تقدَّم:

الأول: إنَّ الواضح من رواية الخرائج أنَّ المخطِّط والمباشر لقتل الإمام الباقر(ع) بالسُمِّ هو زيد بن الحسن بل الظاهر منها أنَّه صاحب القرار في ذلك وأنَّ الخليفة الأُموي بريءٌ من دم الإمام (ع) ولو قيل إنَّ في الرواية إشعارًا بأنَّ إقدام زيدٍ على قتل الإمام (ع) كان بإيعازٍ من الخليفة الأموي فلا مانع من القبول بذلك ولكنَّه لا ينفي وضوح الرواية في أنَّ زيدًا هو المباشِر لقتل الإمام (ع) بل هو المخطِّط والمدبِّر لذلك مضافًا لكونه المنفِّذ، وهي مُوبِقة ترقى لقتل الانبياء، ولا يجوز نسبتُها لمسلمٍ دون علمٍ أو بيِّنة استنادًا إلى روايةٍ موهونة سندًا ومتنًا، على أنَّ زيدًا لم يكن بهذا المستوى من السُوء حتى نقبلَ في حقِّه الاجتراح لهذه المُوبِقة العظيمة التي لا يفوقُها في الشناعة سوى قتل النبيِّ الاعظم (ص).

فالرجلُ وإنْ كان ممَّن تخلَّف عن نصرة عمِّه الإمام الحسين (ع) وكان مُسالمًا للأمويِّين كما قيل وأنَّه كان يرى وجوب التقية والمداراة لهم(4) إلا أنَّه كان على ظاهر الصلاح كما أفاد ذلك الشيخ المفيد في الارشاد، قال (رحمه الله): “فأمَّا زيد بن الحسن (رضي الله عنه) فكان على صدقاتِ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأسنَّ، وكان جليلَ القدر كريمَ الطبع ظريف النفس كثير البرِّ، ومدحَه الشعراء وقصَده الناسُ من الآفاق لطلب فضله” ثم نقل شيئًا من الشعر الذي قيل في مدحه ثم قال (رحمه الله): “ومات زيدٌ وله تسعون سنة، فرثاه جماعةٌ من الشعراء وذكروا مآثره وبكوا فضله” ثم نقل أبياتًا قيلت في رثائه قال: “فممَّن رثاه قدامة بن موسى الجمحي فقال: .. وإنْ يكُ أمسى رهنَ رمسٍ فقد ثوى * به وهو محمودُ الفعال فقيدُ ..” ثم قال الشيخ المفيد: “وخرج زيد بن الحسن (رضي الله عنه) من الدنيا ولم يدَّعِ الإمامة ..”(5).

وقال أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب “.. وكان زيد بن الحسن جوادًا ممدوحًا عاش مائة سنة، وقيل خمسًا وتسعين، وقيل تسعين، ومات بين مكة والمدينة بموضع يقال له حاجر ..”(6).

الثاني: إنَّ جريمة قتلٍ تُرتكبُ في حقِّ رجلٍ هو بحجم الإمام الباقر (ع) مِن قِبَل رجلٍ معروف مثل زيد بن الحسن والذي كان الوجهَ الأبرز لدى الحسنيين -في وقته- بل والهاشميين من أبناءِ عليٍّ وعقيلٍ وجعفر والعباس بعد الإمام الباقر (ع) إنَّ جريمةً بهذا الحجم لا يُمكن أنْ تخفى ولا يتمُّ تداولها لدى المعاصرين للقضيَّة بل سوف تكون حديث الساعة في وقتها، ولو اقتضت مصلحةُ الحسنيين التكتُّم عليها فإنَّ من غير الراجح أنْ تجتمعَ كلمةُ الهاشميين رغم اختلاف أمزجتهم على التكتُّم عليها فلا يتداولونها في مجالسهم، وذلك يقتضي بطبعِه خروجها من دائرة الهاشميين، إذ أنَّهم ليسوا في معزلٍ عن محيطهم خصوصًا وأنَّ هناك خصومات ومشاحنات، على أنَّ للإمام (ع) شيعةً كُثُرًا في الحجاز والعراق وغيرها من الحواضر الإسلاميَّة، ولهذا سوف يسألون عن سبب وفاته خصوصًا وأنَّ الروايات أكَّدت أنَّه لم يكن مسبوقًا بمرض، وبمجرَّد أن يلتقط أحدُهم الخبر فإنَّه سوف ينتشر انتشار النار في الهشيم إنْ لم يكن بنحو الجزم فبنحو الإشاعة والظن وذلك يقتضي بطبعه تكثُّر الأسئلة -للمعنيين- حول هذه القضية لغرض التثبُّت من صحتها، فبين نافٍ وبين مُثبِتٍ وبين متحفِّظ، ولو وقع ذلك لوصلنا شيءٌ منه كيف ولم يصل إلينا سوى خبر الخرائج!!.

على أنَّ صاحب الخرائج قد نقل الرواية عن أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) ومعنى ذلك -لو صحَّ- هو عدمُ بناءِ الإمام الصادق (ع) على التكتُّم وإلا لما أخبر أبا بصير عن تفاصيل القضيَّة، وليس في الرواية ما يدلُّ على أنَّ الإمام (ع) قد استكتمه الخبر، ولو كان الإمامُ الصادق (ع) قد استكتمه الخبر فكيف ساغ له وهو الثقةُ الجليل أنْ يُفشي سرَّ الإمام (ع)، على أنَّ في الرواية ما يُرجِّح أنَّه لم يكن بناءُ أهل البيت (ع) على التكتُّم وإخفاء الخبر، فقد ورد فيها أنَّ: “ذلك السرج عند آل محمَّدٍ معلَّق”، فلماذا يتمُّ الاحتفاظ بالسرج ولم يتم الإتلاف له بإحراقه أو دفنه خشيةَ أنْ يمسَّه من أحدٍ فيتورَّم جلدُه، ثم لماذا يتمُّ تعليقُه إذا كان الغرض من الاحتفاظ به هو الاحتفاظ بوثيقةٍ على الجريمة، إنَّ هذا الغرض يُمكن تحصيله من طريق إيداع السرج في صندوقٍ مُحرَز أو ما أشبه ذلك أمَّا تعليقه في إحدى دور آل محمَّد (ص) يُشاهدُه الصبيانُ والنساءُ والرجالُ منهم وممَّن يتَّفق له الدخول لتلك الدار من غيرهم، إنَّ تعليقَه ليس له تفسيرٌ على الأرجح إلا إرادة الإفشاء للخبر وإبقاء السرج شاهدًا على الجريمة ولا أقلَّ من أنَّ تعليقه يكشفُ عن أنَّه لم يكن بناءُ أهل البيت (ع) هو التكتُّم على الجريمة وإلا لم يضعوا السرج في مرأى النساء والصبيان الذين سيكبرون ويُخبرِونَ عن أنَّهم شاهدوا السرج الذي قُتل به الإمام الباقر (ع) فإذا كانوا لا يعلمون بهويَّة القاتل فلا أقلَّ من أنَّهم قد شاهدوا وسيلة القتل لرجلٍ يهمُّهم كثيرًا الوقوف على تفاصيل أحواله فلماذا خلت الأخبار والروايات من أيِّ إشارةٍ إلى هذه الواقعة.

وخلاصة القول: إنَّ كلَّ مقتضيات شيوع الخبر متوافرة وموانع الوصول منتفية، فلماذا لم يصل خبرُ القتل بالسرج المسموم إلا من طريق هذه الرواية اليتيمة والمُرسلة، إنَّ ذلك يُوهِن الرواية إلى حدِّ الاطمئنان بعدم مطابقتها للواقع.

وعليه فحيثُ لم تثبت رواية السرج المسموم بل هي غير قابلةٍ للتصديق كما افاد السيد الخوئي (رحمه الله)(7) فالمتعيَّن هو أنَّ اغتيال الامام (ع) قد تمَّ بالوسيلة المتعارفة آنذاك وهي دسُّ السُمِّ إليه في الطعام أو الشراب، فإنَّ ذلك هو المستظهَر من مثل عبارة مات (ع) مسمومًا أو مات بالسُمِّ أو بعد أنْ دُسَّ إليه السُمُّ الواردة في كلمات العلماء والمؤرِّخين أمثال الشيخ الصدوق في الإعتقادات وابن شهراشوب في المناقب(8) وابن حجر الهيتمي في الصواعق(9) وغيرهم.

مُبعِّدات أخرى لرواية السَّرْج المسموم:

هذا وثمة مُوهِناتٌ أُخرى للرواية لكنهَّا لا ترقى لما تقدَّم نذكر منها اثنتين بنحو الإيجاز:

الأولى: اشتمال الرواية على دعوى أنَّ زيدًا بعد أنْ لم تُفلِح خصومتُه عند قاضي المدينة سافر إلى الشام وعاد منها إلى المدينة مقيَّداً والحال أنَّ عمره حينذاك قد بلغ المائة سنة أو تسعين سنة على أقلِّ تقدير لأنَّ مفاد الرواية أنَّه مات بعد عودته وبعد استشهاد الإمام (ع) بأيَّام، ويذكر المؤرِّخون أنَّه مات عن مائة عام أو خمس وتسعين أو تسعين عامًا، فمقتضى ذلك أنَّ سفره وعودته من الشام كان وهو في هذا السنِّ المتقدِّم وذلك مستبعَد إذ لا يقوى مثله غالبًا على مثل هذه الأسفار، فالمناسبُ لمَن هو في سنِّه ووجاهته أنْ يبعثَ للخليفة مَن يمثِّله أو يبعث إليه كتابًا، أمَّا أن يُسافر هذه المسافة البعيدة وهو في هذا السنِّ فهو مستبعَد، ويُؤكِّد الاستبعاد ما ورد في الرواية مِن حمله مقيَّدًا إلى المدينة وكتابة الخليفة الأموي للإمام: “إنِّي بعثتُ إليك بابن عمِّك فأحسِنْ أدبه” أي أنَّه أجاز للإمام (ع) أنْ يؤدِّبَ زيدًا بما يشاء ولكن بما يقتضيه الرفق، فإنَّ ذلك مستبعَد، إذ لم يصدر من زيدٍ عند الخليفة الأموي -بحسب الرواية- ما يدعوه للتنكيل به بل إنَّ ما صدر عنه يقتضي إكرامهم له، على أنَّ زيدًا كان محظيًّا عندهم من بين الهاشميين لما عُرف عنه من تبنِّيه المداراة لهم والتواصل معهم، وعلى خلاف ذلك كان موقف الإمام الباقر (ع) المتَّسم بالجفوة والقطيعة لهم.

الثانية: إنَّ المشهور بين المؤرِّخين من الفريقين ومنهم الشيخ المفيد(10) أنَّ الذي كان يلي صدقات رسول الله (ص) هو زيد بن الحسن فإذا صحَّ ذلك فلماذا الخصومة؟! وأمَّا صدقات أمير المؤمنين (ع) فكانت بعهدة الإمام السجاد (ع) ثم آلت إلى عُهدة الإمام الباقر (ع) ولم يكن زيدٌ يُنازع في ذلك، فقد ورد في الكافي للكليني ما يدلُّ على إقرار زيد بن الحسن بذلك كما هو صريح معتبرة الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلى ابْنِ حَزْمٍ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْه بِصَدَقَةِ عَلِيٍّ وعُمَرَ وعُثْمَانَ، وإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ بَعَثَ إلى زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، وكَانَ أَكْبَرَهُمْ فَسَأَلَه الصَّدَقَةَ فَقَالَ: زَيْدٌ إِنَّ الْوَالِيَ كَانَ بَعْدَ عَلِيٍّ الْحَسَنَ، وبَعْدَ الْحَسَنِ الْحُسَيْنَ، وبَعْدَ الْحُسَيْنِ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، وبَعْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَابْعَثْ إِلَيْه، فَبَعَثَ ابْنُ حَزْمٍ إلى أَبِي فَأَرْسَلَنِي أَبِي بِالْكِتَابِ إِلَيْه حَتَّى دَفَعْتُه إلى ابْنِ حَزْمٍ ..”(11).

وأورد الكليني روايةً أخرى بسندٍ معتبر عن ابن أبي يعفور(12) قريبة المضمون والألفاظ من معتبرة الحسين بن أبي العلاء.

مثل هذه المُوهِنات -المعبِّرة عن اضطراب الرواية وتفكُّك مضامينها- تُساهم في تأكيد ما أفاده السيِّد الخوئي (رحمه الله) من أنَّ رواية السرج المسموم مفتعلة.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور



المصدر


اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد