ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: “لَمْ يَتَعَرَّ مِنَ الشَّرِّ مَنْ لَمْ يَتَجَلْبَبْ بِالْخَيرِ“.
تؤكد هذه الجوهرة الكريمة على الموقف العملي الذي يجب أن يتخذه المرء من مسألة الشر والخير، فهو بين خيارين إما أن يكون من الأخيار، وهذا يقتضي أن يتعرَّى من الشَّرِّ بالتَّمام، أو يكون من الأشرار وهذا يقتضي ألا يكون من الأخيار، إذ لا يمكن الجمع بينهما، كما لا يمكن الجمع بين اللونين الأبيض والأسود في ذات اللحظة وذات المكان، والموقف الرمادي يجعله أقرب إلى الأشرار منه إلى الأخيار.
كلمة “تعرّى” تعني كشف وأظهر ما يجب سَتْره، بينما “تجلّبَب” تعني لَبِس الجِلباب، وهو الثوب الذي يغطي جسد الإنسان ويستره، فالعبارة تشير إلى أن الإنسان الذي لم يتجلبب أو يتحصن بالخير، كل الخير سيظل عُرضَة للشر، ولن يكون بمأمن منه، فالخير هو الدرع الواقي الذي يبعد الإنسان عن الوقوع في الخطيئة أو الفساد.
والأخلاق الفاضلة، والعمل الصالح، واتباع أوامر الله، جميعها تعدُّ جزءاً من هذا الجلباب الواقي الذي يحمي الفرد من الشرور والمعاصي والفواحش.
ومِمَّا لا شك فيه أن ليس للمرء أن يكون من أهل الشَّرِّ، فلا العقل يقبل ذلك، ولا الفِطرة الإنسانية السليمة، ولا الدِّين، فهذه الثلاثة جميعاً تدعوه إلى اجتناب الشَّرِّ والاتصاف بالخير، وإذا كان العقل والفطرة يدعوانه إلى اجتناب الأول والاتصاف بالثاني نظرياً فإن الدِّين يدعوه إلى ذلك عملياً، ويكشف له عن الآثار السلبية الخطيرة التي تترتب على فعل الشَّرَّ، وعن الآثار الإيجابية العظيمة التي تترتب على فعل الخير والاتصاف به، بل يذهب الدِّين إلى مزيد في هذا الشأن حيث يجعل عقوبات متناسبة مع فعل الشر، أو الاتصاف به، ولذلك يعاقب القاتل، والسارق، والزاني، والمعتدي، والظالم، والمتجاهر بالفِسق، يعاقبه عقوبات مادية، كما يعاقبه عقوبات معنوية بنزع صِفة العَدالة عنه، وعدم تصديقه، أو اعتماد شهادته، أو سوى ذلك من العقوبات المعنوية.
ومن لطيف ما جاء في هذا الشأن قول الإمام أمير المؤمنين (ع):
“إِنَّ اَللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ لِبَاساً يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ وَجِلْبَابًا يَحْجُبُ شُرُورَ أَنْفُسَكُم” فكما يوجِب الدين سَتْرَ العورات يوجب اجتناب الشرور كلها قليلها وكثيرها.
وانطلاقاً مما سبق نؤكِّد على الأمور التالية:
أولاً: إن التعري من الشر والتجلبب بالخير يجب أن يكون تاماً، لأن بقاء شيء من الشِّرِّ في فكر الإنسان أو أفعاله يعني أن يبقى عُرضة لانتشاره من جديد، فالشَّرُ مثل أي مرض فتّاك كالسرطان مثلاً لا يبرأ الإنسان منه إلا إذا تمكن من القضاء على كل الخلايا السرطانية في الجسم.
ثانياً: أن يكَوِّن المَرءُ لنفسه مَناعة فكرية ونفسية يصعب معها عودة الشَّرِّ إليه، قال الإمام أمير المؤمنين (ع): “الخَيرُ كُلُّهُ فِيْمَنْ صانَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ“. وهذا يقتضي أن يغوص في أعماق فِكره، ومناشيء أفعاله، ونواياه، وأن يصارح نفسه وينصحها، فإذا وجد خَلَلاً في فكره أصلحه، وإذا وجد عيباً في نواياه عالجه، وإذا وجد شراً في أفعاله سارع إلى الإقلاع عنه.
ثالثاً: أن يبتعد عن كل المُؤثِّرات والمُسَبِّبات التي تنقل إليه عدوى الشَّرِّ، فإذا كان في بيئة تحمله على الشَّرِّ انتقل عنها إلى بيئة سليمة آمنة، وإذا كان له أصدقاء يدعونه إلى ذلك تركهم وانصرف إلى بناء علاقات صداقة مع أشخاص آمنين يدعونه إلى الخير، ويفعلوه.
رابعاً: أن يُواكِبَ التَّخلّي عن الشر بالتَّحَلّي بالخير، وهذا ما يطلق عليه علماء الأخلاق (التَّخلِيَة والتَّحلِيَة) ومنهما جميعاً تتكون عملية تهذيب النفس وتزكيتها، وأول خطوة في هذا المجال يذكرها علماء الأخلاق هي التوبة والإنابة، ومشارطة النفس ومراقبتها الدائمة ومحاسبتها المتواصلة، ومجاهدتها في جميع هذه المراحل.
خامساً: أن يتَّخِذ المرء لنفسه مثلاً أعلى من الكمال الأخلاقي والروحي يتمثَّله في سَعيه نحو الكمال والرُقِيِّ الأخلاقي، ثمّ يشْرَع في الاقتراب نحوه خطوة خطوة، فهذا المثل الأعلى يكون محفّزاً له نحو الخير بلا رَيب، وإذا وصل إلى مرحلة ذاك المثل أو اقترب منه، قويت همّته، واشتدّت عزيمته، فكان بإمكانه فرض مَثَلٍ آخر أعلى وأبعد مَدىً عن المَثَل السابق، وقد جاء في رسالة الإمام أمير المؤمنين التي بعث بها إلى عامله على البصرة عثمان بن حُنَيفٍ الأنصاري:
*”أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ“.
السيد بلال وهبي
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.