خصوصية المفردة القرآنية والاستهزاء بالكافرين (8)

0
4

 

﴿تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) [الجاثية]

 

وفي مقالنا السابق (خصوصية المفردة القرآنية وأسلوب الاستهزاء والتهكم (7)) تكلمنا عن الآية الكريمة: ﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡكَرِيمُ (49)﴾ [الدخان]

 

وذكرنا أن الله -سبحانه- يسخر من المتكبرين والكافرين لأنهم يستحقون ذلك، ويقابلهم بنفس أسلوبهم. فهم جديرون بذلك، إذ كانت أعمالهم في الدنيا هي التي جعلتهم يواجهون هذا الموقف في الآخرة. يقول عز وجل:

 

﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) [الجاثية]

 

فمن كان دأبه الاستهزاء بالدين وبالمؤمنين في حياته فماذا يتوقع أن يرى في الآخرة؟!

 

ومن صور استهزاء الكافرين ما ذكره القرآن:

 

﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) [الفرقان]

 

ولما كان منهجهم يقوم على الاستخفاف والتهكم والاستهزاء؛

 

﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) [البقرة]

 

ولذلك فإن ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) [البقرة] جواباً لهم على فعلهم ومقابلةً على صنيعهم.

 

ومن نافلة القول إن الانبياء هم أعظم وأشرف ما خلق الله سبحانه وقد اختارهم الله ليقودوا ركب البشرية نحو الهداية والفلاح والصلاح، بيد أننا نجد من الناس أشخاصاً عصاة متكبرين مصرّين على الغواية والكفر والاستهزاء بالرسل؛

 

يقول سبحانه:

 

﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي شِيَعِ ٱلۡأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (11) كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (12) لَا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ (13) وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ (14) لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ (15) [الحجر]

 

وصلوا لهذه الدرجة من التهكم والاستهزاء بالرسالة والرسول، لهذا لا جرم ولا غرابة أن نجدهم يلقون الاستهزاء من ربهم على رؤوس الأشهاد يوم يقوم الناس لرب العالمين.

 

﴿فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (10)﴾ [الأنعام]

 

ولطالما كان المؤمنون يعانون من استهزاء المشركين بالله ورسوله وآياته وبالمؤمنين؛

 

﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا… (212)﴾ [البقرة] ولذلك يبين – سبحانه – موقفه منهم فيقول: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ

 

وقد حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يُتعجب منه، وهذا المعنى غير مستحيل على الله، فيصح إسناده إليه – تعالى – على وجه الحقيقة.

 

بينما يرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفكّ عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء وهو في الواقع غير حسن، أو يقر المستهزئ به على أمر غير صواب، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه – تعالى – على معنى يليق بجلاله، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، وسمّى ذلك [استهزاء] على سبيل المشاكلة كما في قوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم، كما يقول محمد سيد طنطاوي في تفسيره “الوسيط“.

 

فاستهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به؛ عمل يستحقونه. وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه،

 

قالوا: وكذلك قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)﴾ [آل عمران] و﴿الله يستهزئ بهم﴾ على سبيل الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى: أن المكر والهزء حاق بهم.

 

وقال آخرون، قوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ وقوله ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ… (142)﴾ [النساء]، وقوله ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ… (79)﴾ [التوبة] و﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ… (67)﴾ [التوبة] وما أشبه ذلك؛ إخبارٌ من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا… (40)﴾ [الشورى]

 

وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا… (194)﴾ [البقرة]، فالأول ظلمٌ، والثاني عدلٌ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما، كما يعبّر ابن كثير في تفسيره.

 

ويخاطب الله (جلت عظمته) أمثال هؤلاء بلغة التقريع واللوم الشديد قائلاً: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)﴾؟! [التوبة]

 

وختاما؛ فان الله عز وجل يعبّر عن حالتهم بصيغة رائعة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل:

 

﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) [يس]

 

بقلم: د. رعد هادي جبارة

الأمين العام للمجمع القرآني الدولي

المصدر


اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد