نسأله جل شأنه أن يهب لنا من لدنه في سائر أحوالنا رحمةً تضيء لنا الظلمات، وتعصمنا من الشبهات والنزعات، وتهدينا إلى صراطه المستقيم، كما نسأله جلت قدرته أن ينشر رحمته، ويتم نعمته، على وفده الأبرار الذين تجردوا من كل شيء في هذه الدنيا ليفدوا إليه في بيته، يدفعهم الإيمان، ويحدوهم الشوق، ويملأهم اليقين، وترتفع أصواتهم عند كل شرف من الأرض أو منحدر بنداء صادر من الأعماق تخشع له القلوب، وتدمع منه العيون: لبيك إللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. فاللهم أكرم وفادتهم، وأحسن مثواهم، وأغدق عليهم من سحائب فضلك ورضوانك ما تشرح به صدورهم، وتغفر به ذنوبهم، وارددهم إلى أوطانهم وأهليهم سالمين. ربنا إنهم زوارك، وعمار بيتك، وإنك لأنت الكريم الرحيم.
بعد هذا الدعاء الذي أتوجه به إلى الله، والذي أعم به جميع إخواننا المسلمين في البلاد المقدسة أو على أبوابها، أقول: لا نعرف عبادةً من العبادات عنى بها القرآن الكريم على وجه التفصيل، وبينها بنصوصه أكمل بيان، وعرض لكل ما يلابسها أو يتصل بها من أحكام وشعائر، وأبرزها في صورة رائعة تملأ النفوس، وتهز القلوب، وتشعر المؤمنين بعظمة الله، ونعمة الله، كعبادة الحج؛ أنبأنا الله تعالى: {إِن أَولَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلناسِ لَلذِي بِبَكةَ مُبَارَكاً وَهُدًى للْعَالَمِينَ}، وأنبأنا أنه اختار لبناء هذا البيت نبياً كريماً، هو خليله إبراهيم الذي جاهد الشرك وحطم الأوثان، وهاجر إلى ربه في واد غير ذي زرع، وأنبأنا بأنه هو الذي بوأ لإبراهيم مكان هذا البيت، أي هيأ له موضعه بإرشاد منه ووحي، وعين له سمته، وهداه إليه، ثم عهد في بنائه ورفع قواعده إلى هذا النبي الكريم وابنه إسماعيل، وصور لنا موقفهما الرائع، موقف شيخ كبير، وابن له فتى صغير، يرفعان القواعد، ويبتهلان إلى الله في حرارة الإيمان، وقوة اليقين، راجيين القبول، مفكرين في أمر الأمة حاضرها ومستقبلها، حريصين على هداها وتوفيقها {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبنَا تَقَبلْ مِنا إِنكَ أَنتَ السمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُريتِنَا أُمةً مسْلِمَةً لكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنكَ أَنتَ التوابُ الرحِيمُ * رَبنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً منْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكيهِمْ إِنكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وأنبأنا، جل شأنه، أنه جعل هذا البيت مثابة للناس وأمناً، لا يجوز فيه قتال.
ولا يجوز من حوله قتال، فمكن لهم بذلك حرماً آمناً في بلاد مضطربة لا ضابط لشؤونها، والناس من حوله يتخطفون كما يتخطف الطير، وأنبأنا أنه أكرم جيرانه، فجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، ورزقهم من الطيبات، وجبى إليهم ثمرات كل شيء، وأنبأنا أنه أكرم رسوله حين استجاب له وهو يقلب وجهه في السماء، فولاه قبلة يرضاها هي هذا المسجد الحرام، ثم جعل شعائره شعائر الله، ففرض على الناس تعظيمها وحرم عليهم انتهاكها، وإرادة الإلحاد أو الظلم فيها، وأوجب حجه على كل مستطيع، وجعل ذلك حقاً “لله” على الناس من استطاع إليه سبيلاً، وأشعر بأن رفضه أو التكاسل عنه لغير عذر كفر وجحود {وَمَن كَفَرَ فَإِن الله غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ}، وجعل هذا الحج في أشهر معلومات {فَمَن فَرَضَ فِيهِن الْحَج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَج}، وعرض لتفاصيل أحكامة، فذكر الطواف والسعي، وأمر من أحصر بما استيسر من الهدي، ونهى عن حلق الرؤوس قبل أن يبلغ الهدي محله، وجعل لمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وأوجب على من أمن وكان متمتعاً بالعمرة إلى الحج، أن يقدم هديا، فإن لم يستطيع فصيام أيام بعضها في الحج وبعضها إذا رجع إن كان من غير حاضري المسجد الحرام، وأمر الحجيج إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروا اسم الله عند المشعر الحرام، وأن يذكروه كما هداهم، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وأن يذكروا الله في أيام معدودات، وجعل البدن التي تذبح فيه من شعائر الله، ولفت إلى ما فيها للناس من خير ومنافع، وأمر بإطعام القانع منها والمعتر، وأمر بعد تمام النسك بقضاء التفث، ووفاء النذر، والطواف بالبيت العتيق، إلى غير ذلك من أفعاله وتفاصيل أحكامه.
ما هو السر في عناية القرآن الكريم بتلك الفريضة على هذا النحو؟ وهل الحج إلا ركن من أركان الإسلام كسائر أركانه الخمسة التي ذكرت في الحديث المعروف، بل كان آخر هذه الأركان ذكراً؟ فلم خص عن بعضها بهذه العناية التفصيلية؟ ولمَ لم يكن كالصلاة وهي عماد الدين، أو الزكاة وهي نظام التأمين الاجتماعي في الإسلام، كما يسميها بعض العلماء، لم لم يكن كالصلاة أو الزكاة حيث فرضهما الله على المؤمنين إجمالاً، ولم يعرض في كتابه لسائر تفاصيلهما؟ أجل إنه لسر عظيم.
لقد ذكر الحج بين أركان الإسلام الخمسة التي جاء ذكرها في الحديث الشريف، وجاء ذكره في آخرها، ولكن ليس ذلك لأنه آخر هذه الأركان منزلة، وأقلها شأناً، بل لأنه أعلاها في مراتب الترقي والوصول إلى الكمال، فإن أركان الإسلام الأربعة التي تقدمته كلها تمهيد له وإعداد بالتطهير والتزكية، حتى إذا أقبل المرء إليه، كان صافي النفس، مطمئن القلب، راسخ الإيمان، ولذلك كان الحج المقبول عند الله بمثابة خلق الله لصاحبة من جديد، وفي ذلك يقول رسول الله (ص): “من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، فشهادة أن لا إله الا الله، وأن محمداً رسول الله، هي الخطوة الأولى التي يتقدم بها الإنسان، فيعترف بأصل العلاقة بينه وبين ربه ورسول ربه، ومع ما لهذا الاعتراف من قيمة في ذاته، فهو لا يكلف صاحبه بذلاً ولا تضحية، ولا يستغرق منه جهداً ولا وقتاً، بل إن فيه لذوي البصائر وأولي الألباب لذة هي لذة العرفان، وجمالاً هو جمال الإدراك للحق، فإذا آمن قلبه، كانت الخطوة التالية لهذا الإيمان أن يتوجه إلى هذا الإله الذي آمن به، واعترف بوحدانيته، خاشعاً مناجياً، في صلاة رسمها له، وحدد له أركانها وورسائلها وشرع له قبلتها، وهذه عبادة مع سموها وجلالة شأنها، لا تكلف صاحبها جهداً كبيراً، ولا تأخذ منه وقتاً طويلاً، فإن أدنى ما تصح به صلاة الفريضة، لا يتجاوز بضع دقائق، وما زاد على ذلك فهو كمال.
ثم تأتي بعد ذلك الخطوة الثالثة، وفيها شيء من التضحية والبذل، ذلك أن يؤدي زكاة ماله، فيقتطع جزءاً معيناً طيبة به نفسه ليعطيه الفقراء والمساكين، وبهذا الركن الثالث، تكون أول تربية إيجابية، وتزكية نفسية من الشح والاستئثار يطهر الله بها القلوب، فإنه ما من شيء يتميز به الإيمان الصادق من التظاهر الزائف، كالتضحية المالية، ولقد نرى كثيراً من الناس يصلون ويقومون ويصومون، حتى إذا وقفوا أمام عقبة الشح والضن بالمال على البذل لم يقتحموها، وفي ذلك يقول الله عز وجل مصوراً طبيعة الإنسان: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَك رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}. ولكن الزكاة على ذلك ليست إلا تضحية مالية بنسبة ضئيلة تقل عن أصغر ضريبة أهل الأموال على أدائها في أي بلد من بلاد الله وهم لا يشعرون.
ثم تأتي بعد ذلك الخطوة الرابعة، وهي صوم شهر كامل متتابعة أيامه، يتخلى فيه المؤمن عن طعامه وشرابه وشهوته، إيماناً بالله، واحتساباً لثوابه، ويصبر فيه على كثير مما يقاسي، وتلك منزلة من التضحية أعلى من التضحية في الزكاة، لأن التضحية بشيء من النفس أعز وأغلى من التضحية بشيء من المال.
أما الفريضة الخامسة، وهي الحج، ففيها ذلك كله على أبلغ وجه، وأكمل صورة: فيها الاعتراف بالله، والإيمان برسوله إلى حد الترك لكل ما سواهما من المال والأهل والولد، فيها التوجه إلى الله، لا بواسطة قبلة بينه وبينها آلاف الأميال، ولكن بالرحيل إلى هذه القبلة نفسها، فيها بذل الكثير من المال عن رضى وسخاء، فيها التضحية بالنفس، واحتمال مشاق السفر والاغتراب، والتحلل من سلطان العادة في متع العيش ولذاته، فيها الخلع والعمل والكدح وارتداء ثياب التطهر والإحرام والتسليم، وفيها إلى ذلك كله زيارة الله في بيته، والمثول بين يديه في المكان الذي قدسه، والزمان الذي قدسه.
هكذا شأن فريضة الحج: كل ما قبلها بمثابة التمهيد لها، مثل العبد فيها كمثل امرئ أحب ملكاً عظيماً، ودان له وهو في طرف من أطراف ملكه بالخضوع والولاء، ينفذ أوامره، ويخلص في خدمته، ويقوم بكل ما عليه من واجبات في سبيله، ثم يدعوه هذا الملك العظيم، فيهرول إليه مسرعاً، ويخلع نفسه من كل ما هو فيه، ويأخذ لهذه الزيارة التي ستتم في بيت الملك أهبتها، فيتزين ويتطيب، ويقطع المراحل الطوال حتى يصل إلى غايته، ويحظى بأمنيته! {وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
* مجلة “رسالة الإسلام”، العدد 4.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.