شذرات من حياة النبي الاكرم محمد بن عبد الله

0
9

لقد اهتم المؤرخون والفلاسفة من علماء الامة الاسلامية بالكتابة ودراسة شخصية النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” من جميع الوجوه والنواحي المتعلقة بذاته وسيرته وشؤون حياته كافة.

فاذا اردنا ان نتلمس ملامحَ شخصيته الفذة في جميع جوانب الحياة، لنأخذ منها الدرس والقدوة والاسوة، حيث اوضح لنا القرآن الكريم ان النبي الاعظم “صلى الله عليه واله” كان على درجة عالية من الاخلاق والسيرة الشريفة، ولذلك قال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾([1]) ومن هنا أصبح نبينا الاكرم أسوة حسنة في كل شيءٍ لجميع البشر، ولأجل ذلك قال الله تعالى ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾([2]) ، اي أن هناك ثلاثة شروط للاقتداء بالرسول حسبما يضعها القرآن الكريم في هذه الآية، فالأول والثاني ان نرجو الله واليوم الاخر ونعتقد بأنها حق وليست بكذب، وان هذه الدنيا ليست نهاية حياتنا ومصيرنا، بل هي بداية مسيرتنا الى دار الخلد والثالث ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ يعني ان لن نغفل عن ذكر الله سواء في السوق والتجارة او في ساحة الحرب.  ومثلما يدعونا القرآن الى التأسي بالنبي الاكرم فقد دعانا كذلك الى التأسي بسيرة النبي ابراهيم ومن آمن به اذ قال الله سبحانه وتعالى ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾([3]) فحري بكل من يريد الارتقاء بنفسه الى النجاح والصلاح ان يتخذ من سيرة الانبياء ولا سيما سيرة نبينا محمد “صلى الله عليه واله” مصدراً ينهل منه الخلق الرفيع والسلوك الحسن ليكون سعيداً في الدارين([4]).

ولكي نترجم تلك السيرة في حياتنا ترجمةً واقعية، واذا اردنا ان نصلَ الى الكمال والى السعادة التي ينشدها كل أنسان في الدارين، فلا بد ان نَبني شخصيتنا وعلاقتنا مع الله تعالى، ومع النفسِ ومع الاخرين، بل مع كل شيء في الكون، على هدى تلك الشخصية الايمانية المتكاملة التي تمثلت بالنبي الاكرم “صلى الله عليه واله”.

اذن من يطالع سيرته ويتأمل في اخلاقه وحسن سيرته سيجد أنها اخلاق القرآن تماماً لا ينازعه فيها احد، وذلك روي عنه “صلى الله عليه واله” كان يمشي هوناً… اذا مشى كأنما ينحط من صبب، اذا التفتَ التفتَ جميعاً، خافض الطرف، نظرهُ الى الارض أطول من نظره الى السماء، جُل نظره الملاحظة يسوق اصحابه ويبدر من لقي السلام([5]).

وعندما نبحث في جميع جوانب حياة الرسول الاعظم “صلى الله عليه واله” لنلاحظ كيف انه جسد علاقته العبودية والطاعة والخضوع والتسليم لله تعالى، في كل لحظة وفي كل جانب من جوانب الحياة، اذن كيف كانت علاقته مع الله تعالى في مسألة الصلاة والدعاء وذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؟، حيث انه كان يفهم تلك الممارسات العبادية على حقيقتها، فلنأخذ الصلاة على سبيل المثال لا الحصر، كيف كان النبي الاكرم يترجمها عبودية تامة لله ، كيف كان ينتظر حلول وقتها؟، وكيف كان اقباله عليها؟ . قد كان النبي “صلى الله عليه واله” حينما يحين وقت الصلاة  يقول:” قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة”([6])، اي قُم فأذن لكي تبتدئ الصلاة، حتى تزيل عن هذه النفس همومها ومتاعبها وذلك بالتوجه الى الله تعالى.

وفي بيان كثرة عبادة النبي وتقوية ذلك الاتصال الروحي مع الله تعالى واستشعار عالم الغيب دائما في كل مفصل من مفاصل الحياة سئلت ام سلمة عن صلاة النبي الاكرم في الليل قالت: “مالكم وصلاته ؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ،ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح” ([7])، هل نقتدي بالنبي الاكرم ونتوجه الى صلاتنا حينما يحضر وقت الصلاة؟ فان كنا كذلك، فنحن في الحقيقة قد جسدنا العبودية كما بينها النبي “صلى الله عليه واله” وجسدها في سيرته وسلوكه، وجعلنا من النبي الاكرم قدوة واسوة لنا. اما في صومه “صلى الله عليه واله” فلم تكن ممارسته لهذه العبادة على انها حرمان للجسد من ملذات الطعام والشراب والمواقعة، بل كانت ممارسة نابعة عن الوعي والادراك لحقيقة هذه العبادة وجوهرها، وان المقصود منها هو تقوية الارادة وتهذيب النفس وتربيتها على الفضائل وتنزيهها عن الرذائل. فكان اكثر صيامه من الشهور في شعبان وكان يقول:” شعبان شهري ورجب شهرك يا علي ورمضان شهر الله تعالى” وأما في شهر رمضان فيكون للنبي شان آخر في صومه فعن أبي عبد الله الصادق “عليه السلام” انه قال:” كان رسول الله اذا كان العشر الاواخر اعتكف في المسجد، وضُربت له قبه من شعر، وشمر المئزر، وطوى فراشه”([8]).وأما الدعاء فهو في الحقيقة تعبير من المؤمن عن احتياجه الدائم لله تعالى في جميع اموره وخضوع له وتسليم بهيمنته وسلطانه، وذلك كان النبي الاكرم لا يفتر عن الدعاء في جميع اوقاته، فكما ورد عن النبي الاعظم “صلى الله عليه واله”:” ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟” قالوا: بلى، قال:” تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء”([9]).

وأما تعامله “صلى الله عليه واله” مع أمته سواء أكان مع أفراد أسرته أم مع أفراد مجتمعه، فكان يتسم بسمو الاخلاق، من العطف والحنان والرعاية والتوقير للكبير واحترام الصغير والتحلي بآداب المجالسة الايمانية وقد جاءت الاشارة الى هذا المعنى ” المجالس بالأمانات، وانما يتجالس الرجلان بأمانة الله عز وجل، فاذا افترقا فليستر كل واحد منهما حديث صاحبه”([10]) ، وقد كان رسول الله خير من تحدث في المجالس وبين حقوقها وحفظها، وهذا ما نقرأه في الخبر الوارد عن الامام الحسين “عليه السلام” ، فانه سال أباه أمير المؤمنين “عليه السلام”، عن مجلس رسول الله “صلى الله عليه واله” فأجابه قائلاً: “لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلا يُوَطِّنُ الأَمَاكِنَ، وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ، لا يَحْسِبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يُرَدَّ إِلا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَتُهُ وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا ، وَصَارُوا فِي الْحَقِّ عِنْدَهُ سَوَاءً ، مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ، وَحَيَاءٍ، وَصبْرٍ، وَأَمَانَةٍ، لا تُرْفَعُ فِيهِ الأَصْوَاتُ، وَلا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ، وَلا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ، مُتَفَاضِلِينَ مُتَعَادِلِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى، مُتَوَاضِعِينَ، يُوَقِّرُونَ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَحيطُونَ الْغَرِيبَ”([11]).

فالأحرى بنا ان نقف عند هذه الصفات الكريمة التي تحلى بها نبينا الكريم وان نتمثل ونقتدي بها وان نحث ابناء الامة على التخلق بها، والسير على هديها واتباع منهجها والتشبه بها، فنبينا كان قرآنا يمشي بين الناس ينشر الفضيلة والقيم والمثل التي دعا لها الله سبحانه وتعالى ، وان يُحيي ذكرى النبي الاكرم فلا يكتفي بحضور هذه المناسبة ، بل ان احياءك الحقيقي حينما تسمع مثل هذه الاحاديث ومثل هذه السيرة، ثم بعد ذلك تجسدها في حياتك اليومية. 

جعفر رمضان

 

([1] ) سورة القلم، الآية 4.

([2] ) سورة الاحزاب: الآية 21.

([3] ) سورة الممتحنة: الآية 4.

([4] ) العتبة الحسينية المقدسة، دروس وعبر من حياة سيد البشر،(كربلاء: مطبعة وارث، 2016)،ص22.

(([5] رضي الدين ابي نصر الحسن بن المفضل الطبرسي، مكارم الاخلاق،( الكويت: مكتبة الالفين،)، ص11-16.

([6] ) احمد بن حنبل، مسند احمد بن حنبل، تحقيق شعيب الارناؤوط، (بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر) ج38،  ص255. 

([7] ) سنن ابي داوود تحقيق يعيد محمد اللحام،(بيروت: دار الفكر، 1990)، مج 1،330

([8] ) أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، من لا يحضره الفقيه،( بيروت :مؤسسة الأعلمي، 1986)، ج2، ص184.

([9] ) ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الامالي، تحقيق علي اكبر الغفاري،( طهران: دار الكتب الاسلامية ، 1381)، ص137-139. 

([10]) ابن عبد البر ،أدب المجالسة،(  طنطا : دار الصحابة للتراث،1989)،ص 29-30.

([11] ) سليمان بن أحمد الطبراني،، الأحاديث الطوال،( الموصل: مكتبة الزهراء،1983) ، ص 76-77؛ رضي الدين ابي نصر الحسن بن المفضل الطبرسي، المصدر السابق، ص 13-14.

المصدر


اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد