لم يكن الباقر (ع) بدينًا بمعنى السُمنة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم شيخنا العزيز .. كثيرًا ما نسمع على ألسنة بعض الخطباء (وفقهم الله) أنَّ الإمام الباقر (ع) كان بدينًا بمعنى أنَّه سمين!
ألا يعدُّ ذلك منافيًا لما اتَّصف به أهلُ البيت (ع) من الزهد وقلَّة الأكل؟ فكيف تجتمع البدانة مع الزهد وقلَّة الأكل؟
الجواب:
لم يكن الإمام (ع) بدينًا إلى أوان شيخوخته:
ليس في شيءٍ من الروايات المتصدَّية لبيان أحوال الإمام أبي جعفرٍ الباقر (ع) ما يدلُّ أو حتى يُشعر أنَّه (ع) كان بدينًا بل فيها -كما سيتَّضح- ما يدلُّ على خلاف هذه الدعوى، نعم وردت روايةٌ اشتملت على وصف الإمام (ع) بالبادن أو البدين إلا أنَّ الواضح منها أنَّ هذا الوصف عرَض له بعد أنْ كبرُتْ سنُّه، هذه الرواية أوردها الشيخُ الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (ع) يَدَعُ خَلَفًا أَفْضَلَ مِنْه حَتَّى رَأَيْتُ ابْنَه مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِظَه فَوَعَظَنِي، فَقَالَ لَه أَصْحَابُه: بِأَيِّ شَيْءٍ وَعَظَكَ؟ قَالَ: خَرَجْتُ إلى بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي سَاعَةٍ حَارَّةٍ فَلَقِيَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (ع) وكَانَ رَجُلًا بَادِنًا ثَقِيلًا، وهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى غُلَامَيْنِ أَسْوَدَيْنِ أَوْ مَوْلَيَيْنِ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: سُبْحَانَ اللَّه شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِه السَّاعَةِ عَلَى هَذِه الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا أَمَا لأَعِظَنَّه فَدَنَوْتُ مِنْه فَسَلَّمْتُ عَلَيْه فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ -بِبهْرٍ- وهُوَ يَتَصَابُّ عَرَقًا فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ الله شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِه السَّاعَةِ عَلَى هَذِه الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا أرَأَيْتَ لَوْ جَاءَ أَجَلُكَ وأَنْتَ عَلَى هَذِه الْحَالِ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ فَقَالَ (ع): لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وأَنَا عَلَى هَذِه الْحَالِ جَاءَنِي وأَنَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَةِ الله عَزَّ وجَلَّ أَكُفُّ بِهَا نَفْسِي وعِيَالِي عَنْكَ وعَنِ النَّاسِ وإِنَّمَا كُنْتُ أَخَافُ أَنْ لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وأَنَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي الله فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَرْحَمُكَ الله أَرَدْتُ أَنْ أَعِظَكَ فَوَعَظْتَنِي”(1).
وقد أورد ذاتَ الرواية الشيخُ المفيد في الإرشاد من طريقٍ آخر إلا أنَّه ورد فيها أنَّ محمد بن المنكدر قال: “فلقيتُ محمد بن عليٍّ وكان رجلًا بدينا”(2).
ومحمد بن المنكدر كان من أبناء العامَّة ولم يكن من الإماميَّة -كما أفاد الكشِّي- نعم كان محبًّا لأهل البيت (ع) وقيل: إنَّه كان من المتصوِّفة الذين يرون أنَّ الاشتغال بالعبادة أولى من التكسُّب ولهذا قال: أردتُ أنْ أعِظَه فوعظني.
ويُؤكِّد على أنَّ البدانة إنَّما عرضت على الإمام (ع) في آخر عمره الشريف حينما كبرت سنُّه ما ورد في موثقة حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ عَنْ أَبِيه قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (ع) أتُصَلِّي النَّوَافِلَ وأَنْتَ قَاعِدٌ؟ فَقَالَ: مَا أُصَلِّيهَا إِلَّا وأَنَا قَاعِدٌ مُنْذُ حَمَلْتُ هَذَا اللَّحْمَ وبَلَغْتُ هَذَا السِّنَّ”(3).
البدانة التي طرأت على الإمام لم تكن بمعنى السُمنة:
ثم إنَّ البدانة التي عرَضت على الإمام (ع) بعد أنْ أصبح شيخًا ليست هي السُمنة الظاهرة المنافية لكمال الجسد واستوائه بل هي بمعنى الضخامة والجسامة، فالبادن والبدين يُستعمل في اللَّغةِ وصفًا للرجل الضخم الجسيم، ولهذا ورد في وصف ابن أبي هالة للنبيِّ الكريم (ص) أنَّه: “بادِنٌ مُتمَاسِك” قال ابنُ الأثير في النهاية: والبادنُ: الضخمُ، فلمَّا قال بادِنٌ أَرْدَفَه بمُتماسِكٍ وهو الذي يُمْسِكُ بعضُ أَعْضائِه بعضًا، فهو مُعْتَدِلُ الخَلْقِ”(4)، وقال ابن منظور في لسان العرب: “وبَدَنَ الرجلُ، بالفتح، يَبْدُنُ بُدْنًا وبَدانةً، فهو بادِنٌ إذا ضخُمَ، وكذلك بَدُنَ، بالضم، يَبْدُن بَدانةً”(5).
فمعنى وصفه (ص) بالبادن المتماسك هو أنَّه كان ممتلئ البدن غير مسترخي اللحم ولا هو مترهِّل، ثم إنَّ وصف ابن أبي هالة للنبيِّ (ص) بالمتماسك بعد وصفه إيَّاه بالبادن يؤكِّد أنَّ البدانة لا تستلزم السمنة المقتضية لاسترخاء اللحم وترهُّله أو انتفاخ البطن، ولهذا أردف ابن أبي هالة بعد قوله: “بادِنٌ مُتمَاسِك” بقوله: “سواءً البطن والصدر”(6) أي أنَّ بطنه ليس مستفيضًا مسترخيًا أو منتفخا بل هو مساوٍ لصدره.
إذن فوصفُ ابنِ المنكدر للإمام (ع) بأنَّه كان بادنًا أو بدينًا لا يدلُّ على أنَّ مقصوده من البدانة هي السُمنة التي تكون منافية لكمال الجسد واستوائه، فرسولُ الله (ص) كان بادنًا ولكنَّه لم يكن سمينًا مترهِّلًا دون ريب، وعليه فلا يصحُّ بل ولا يسوغ وصف الإمام (ع) بالسُمنة الظاهرة حتى بعد الشيخوخة استنادًا لرواية ابن المنكدر أو رواية الحلبي التي اشتملت على وصف الإمام (ع) بالبادن حين وفاته، فإنَّ البدانة لا تُساوق معنى السمنة، فقد يكون الرجل بدينًا ولكنَّه ليس سمينًا فوصفُ البعض للإمام (ع) بالسمنة قولٌ بغير علم وتجاوزٌ لمقتضيات اللِّياقة والادب، نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
ثم إنَّه مضافًا إلى دلالة موثقة حنَّان على أنَّ الإمام (ع) لم يكن بدينًا في مقتبل عمره الشريف إلى أوانِ شيخوخته يمكن تأكيد ذلك بقرينتين:
القرينة الأولى: أنَّه لو كان الإمام (ع) بدينًا بمعنى السمنة الظاهرة لكان معروفًا بهذه الصفة خصوصا وأنَّ السمنة في مثل زمانه وبيئته المناخيَّة والاجتماعية كانت حالةً نادرة لا تكاد تتَّفق للرجال، فلو كان واجدًا لهذه الصفة لعُرف بها، وذلك يقتضي بطبعه أنْ يُشار إليها في تضاعيف الروايات خصوصًا المتصدِّية لبيان أحواله كقيامه وقعوده وملبسه ودوابِّه التي يمتطيها وسعيه في حوائجه وأسفاره وحجِّه الكثير وطوافه وسعيه، كلُّ هذه الأحوال وغيرها قد تصدَّت الروايات لبيانها ولم يكن منها ما يُشير ولو بنحو العرَض إلى وجدانه لهذه الصفة والتي لم تكن لتخلو منها الروايات لو كان واجدًا لها.
ولو كان معروفا بهذه الصفة لذكرها من تصدَّى لترجمته، فإنَّه لَو تحاشى عن ذكرها أصحابُ الأئمة وعلماء الشيعة ومؤرِّخوهم فإنَّه لا موجبَ لدى العامَّة يمنع من ذكر الإمام (ع) بهذه الصفة، فكلُّ علماء التراجم والجرح والتعديل دون استثناء تقريبًا قد ترجموا للإمام (ع) وتصدَّوا لبيان نسبه ومقامه وخصائصه وأحواله وطبقته فلم نجد أحدًا منهم ذكره بهذه الصفة ولو بنحو الإشارة، فَلَو كان معروفًا بهذه الصفة لنوَّه عليها بعضُهم ولو بنحوٍ يليق بمقامه على أحسن التقادير، فإنَّ الإشارة إلى سمات الرجال والرواة الظاهرة كالأفطح والأحول والأعور والأعمى والأشتر والأعرج والأسود والمقفَّع والأفطس والقصير والأصلع وغيرها كان متعارفًا خصوصًا في كتب التراجم لدى العامَّة وكذلك كتب التأريخ. على أنَّ للإمام (ع) خصومًا وأعداءً وحسَّادًا كُثُر فلماذا لم يصل لنا شيءٌ من غمزهم له بهذه الصفة رغم أنَّ ذلك كان ديدنهم، فلو كان معروفًا بهذه الصفة لما تورَّعوا أو توانوا عن غمزه بها.
وهذه القرينة تصلح أيضًا لتأييد ما ذكرناه من أنَّ البدانة التي طرأت عليه بعد شيخوخته لم تكن بمعنى السُمنة الظاهرة المنافية لكمال البدن واستوائه وتماسكه.
القرينة الثانية: أنَّ الإمام (ع) كان فارسًا وكان يُجيدُ فنون القتال والفروسيَّة من ركوب الخيل والرماية والمسايفة والعدْو، فقد كان أبناءُ العرب في زمانه وقبله وبعده يحرصون على إتقان هذه الفنون، وهي بطبيعتها لا تجتمع مع السُمنة الظاهرة بل إنَّ مثل هذه الصفة تحول دون الإتقان لشيءٍ من هذه الفنون.
ونُشير في المقام إلى روايةٍ تُؤيِّد ما ذكرناه من الإمام (ع) كان يُجيد فنون القتال على أكمل ما تكون عليه الإجادة والإتقان، هذه الرواية أوردها محمد بن جرير الطبري الإمامي في كتابه دلائل الإمامة وهي رواية طويلة -اشتملت على بيان الإمام الصادق (ع) لبعض تفاصيل ما وقع له ولأبيه الإمام الباقر (ع) عند إشخاصهما إلى الشام من قِبَل هشام بن عبد الملك الأموي- ننقل منها موضعَ الحاجة، فقد أورد الطبري الإمامي (رحمه الله) بإسناده عن الإمام الصادق (ع) قال: “.. فأنفذ هشامُ بن عبد الملك- بريدًا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه، فأُشخصنا، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام، ثم أُذِنَ لنا في اليوم الرابع، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك، وجندُه وخاصَّتُه وقوفٌ على أرجلهم سماطين متسلِّحين، وقد نصب البرجاس -غرض الرماية- حذاءه، وأشياخُ قومه يرمون.
فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلًا، فقال لأبي: يا أبا جعفر، لو رميتَ مع أشياخ قومِك الغرض. وإنَّما أراد أنْ يهتك بأبي ظنَّا منه أنَّه يقصُر ويُخطئ، ولا يُصيب إذا رمى، فيشتفي منه بذلك، فقال له (ع): إنِّي قد كبرتُ عن الرمي، فإنْ رأيتَ أنْ تعفيَني. فقال: وحقِّ مَن أعزَّنا بدينه ونبيِّه محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) لا أُعفيك. ثم أومأ إلى شيخٍ من بني أمية أنْ أعطِه قوسَك. فتناول أبي عند ذلك قوسَ الشيخ، ثم تناول منه سهمًا فوضعه في كبدِ القوس ثم انتزع ورمى وسَطَ الغرض فنصَبَه فيه، ثم رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصلِه، ثم تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهُم بعضها في جوفِ بعض، وهشام يضطربُ في مجلسِه، فلم يتمالك أنْ قال: أجدتَ يا أبا جعفر، وأنت أرمى العربِ والعجم، كلا زعمتَ أنَّك قد كبرتَ عن الرمي.. فلما نظر هشام ذلك من أبي قال له: يا محمد، اصعد، فصعدَ أبي إلى سريره وأنا أتبعُه، فلمَّا دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعَده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له: يا محمَّد، لا تزالُ العربُ والعجمُ تسودُها قريش ما دام فيهم مثلك، ولله درُّك، من علَّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلَّمته؟
فقال له أبي: قد علمتَ أنَّ أهل المدينة يتعاطونه، فتعاطيتُه أيَّام حداثتي، ثم تركتُه، فلمَّا أراد أميرُ المؤمنين منِّي ذلك عدتُ إليه. فقال له: ما رأيتُ مثلَ هذا الرمي قط مذْ عقلتُ، وما ظننتُ أنَّ في الأرض أحدًا يرمي مثل هذا الرمي، أينَ رميُ جعفرٍ من رميك؟
فقال (ع): إنَّا نحنُ نتوارثُ الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيِّه (ص) في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(7) والأرض لا تخلو ممَّن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرُنا ..”(8).
هذه الرواية تكشفُ عن أنَّ الإمام (ع) كان يتعاطى فنون الفروسيَّة والقتال وكان يُتقنها أيَّما إتقان بحيث أنَّ هشامًا الأمويَّ وهو العدوُّ اللدود لأهل البيت (ع) لم يسعْه إلا الإقرار بتميُّز الإمام (ع) والتعبير عن انبهاره حتى قال إنَّه لم يرَ مثل هذا الرمي منذُ عقِل وأنَّه لا يظنُّ أنَّ أحدًا على وجه الأرض يرمي بهذا الرمي.
ثم إنَّ الإمام (ع) أكَّد أنَّه وسائر أئمة أهل البيت (ع) واجدون لهذا الكمال على أتمِّ ما يكون عليه، كما هو الشأن في سائر الكمالات، فالواضحُ من كلام الإمام (ع) اعتبار الرماية وسائر فنون الفروسيَّة والقتال من الكمال وأنَّه وسائر أئمة أهل البيت (ع) واجدون لهذا الكمال بنحوٍ يقصرُ عنه كلُّ من عَداهم وأنَّ هذا الكمال كسائر الكمالات منحةٌ أنزلها الله تعالى على نبيِّه (ص) وهم يتوارثونها عنه وأنَّ الأرض لا تخلو ممَّن هو واجد لهذه الكمالات التي يقصر عنها غيرُ أهل البيت (ع)، فهذا هو مفاد قوله حين سأله: أين رميُ جعفرٍ (ع) من رميك؟ فقال: “إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيِّه (ص) في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ والأرض لا تخلو ممَّن يكمل هذه الأمور التي يقصُر عنها غيرُنا”، فهم واجدون لمطلق الكمالات التي يقصرُ عنها غيرهم.
فإذا كان الإمام (ع) واجدًا لملكة الفروسيَّة ومختلف فنون القتال التي أشار إليها قولُه تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(9) فإنَّ ذلك يقتضي بالبداهة أنْ لا يكون متَّصفًا بما ينافي هذه الكمالات الجسديَّة، ومن الواضح البيِّن أنَّ السُمنة الظاهرة منافية لذلك.
هذا وقد اشتملت الرواية الشريفة على ما يكشف عن أنَّ سفر الإمامين (ع) من المدينة إلى دمشق ومنها إلى المدينة كان بواسطة الخيل، وهذا لا يُتاح لرجلٍ قد ركبَته السُمنة، فمن غير الميسور لذي السُمنة أنْ يقطع هذه المسافات الشاسعة بواسطة الخيل.
وكذلك اشتملت الرواية على أنَّ الإمام (ع) قد صعد بكلِّ يُسرٍ كما يظهر من سياق الرواية- الجبل المطل على مدينة مدْيَن في طريق العودة إلى المدينة ومثل هذا الفعل لا يُتاح لمن ابتُلي بالسمنة الظاهرة، يقول الإمام الصادق (ع): “فثنى أبي رجلَه عن سرجه ثم قال لي: مكانك -يا جعفر- لا تبرح، ثم صعد الجبل المطلَّ على مدينة مدين ..”(10).
هذا وقد وردت رواياتٌ عديدة وبطرقٍ مختلفة تصدَّت للإخبار عن إشخاص هشام بن عبد الملك للإمام الباقر (ع) من المدينة إلى الشام وتصدَّت هذه الروايات لبيان تفاصيل بعض ما وقع له في سفره، بعضُ هذه التفاصيل تشترك من حيث المضمون مع ما اشتملت عليه رواية دلائل الإمامة، وتختصُّ كلُّ روايةٍ بمضامين لم تتصدَّ لبيانها الرواية الأخرى فممَّن تصدَّى لإيراد رواية الإشخاص عليُّ بن إبراهيم في تفسيره(11)، وابن قولويه في كامل الزيارات(12)، والراوندي عن الصدوق في قصص الأنبياء(13)، وابن شهراشوب في المناقب(14).
فهذه الرواية كما تصلح قرينةً على تأكيد موثقة حنان بن سدير من أنَّ الإمام (ع) لم يكن بدينًا إلى أوان شيخوخته فإنَّها كذلك صالحةٌ لتأييد أنَّ البدانة التي طرأت على الإمام (ع) أيام شيخوخته لم تكن بمعنى السمنة، فإنَّ مفاد كلام الإمام (ع) لهشام أنَّ وجدان الأئمة (ع) لملكة الفروسيَّة المنافية للسمنة تظلُّ ثابتة لهم إلى آخر عمرهم، هذا مضافًا إلى دلالة الرواية على أنَّ إشخاصه إلى الشام كان بعد أنْ كبرت سنُّه.
البدانة لا تُلازم كثرة الأكل:
وأما أنَّ البدانة بالمعنى المذكور في أوان الشيخوخة هل هي مستلزِمة لكثرة الأكل فجوابه يتَّضح من ملاحظة ما أفاده ذوو الاختصاص من أنَّ البدانة في وقت الشيخوخة لا تنشأ بالضرورة عن كثرة الأكل بل تنشأ عن عواملَ يتَّصل بعضُها بمقتضيات الشيخوخة أو بطبيعة الجسد، فطروء البدانة بالمعنى المذكور على جسد الإمام (ع) بعد أنْ كبرتْ سنُّه لا يُنافي ما كان عليه الإمام (ع) من الزهد والذي كان يحظى منه بأعلى مراتبه، شأنُه في ذلك شأنُ سائر أئمة أهل البيت (ع) فهم كما أفاد الإمام الرضا (ع) في الرواية الشريفة التي بسط فيها البيان لجامع صفات الإمام وشرائط الإمامة قال: “.. وأَمْرُ الإمامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ .. والإمام .. مَعْدِنُ الْقُدْسِ والطَّهَارَةِ والنُّسُكِ والزَّهَادَةِ والْعِلْمِ والْعِبَادَةِ”.
يقول الإمام الصادق في معتبرة ابْنِ الْقَدَّاحِ: “.. وكَانَ أَبِي (ع) كَثِيرَ الذِّكْرِ، لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَه وإِنَّه لَيَذْكُرُ اللَّه، وآكُلُ مَعَه الطَّعَامَ وإِنَّه لَيَذْكُرُ اللَّه، ولَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ ومَا يَشْغَلُه ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّه، وكُنْتُ أَرَى لِسَانَه لَازِقًا بِحَنَكِه يَقُولُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ..”(15).
وكان الباقرُ (ع) يُوصِي أصحابه ويقول: “إِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ الْحُلَمَاءُ الْعُلَمَاءُ الذُّبُلُ الشِّفَاه تُعْرَفُ الرَّهْبَانِيَّةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ”(16)، فهم ذبل الشفاه من إدمان الصيام وقلَّةِ الأكل وكثرةِ الذكر، وتُعْرَفُ الرَّهْبَانِيَّةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فهي شاحبةٌ من أثر السهر وقيام الليل.
وكان (ع) يُرشِد أصحابه بقوله: “من أراد أنْ لا يضرُّه طعام، فلا يأكل طعامًا حتى يجوع وتنقى معدتُه، فإذا أكلَ فليسمِّ الله، وليُجِد المضغ، وليكفَّ عن الطعام وهو يشتهيه ويحتاجُ إليه”(17).
وكان (ع) يقول كما في معتبرة أَبِي الْجَارُودِ يقول: “مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَض إلى اللَّه عَزَّ وجَلَّ مِنْ بَطْنٍ مَمْلُوءٍ”(18)، ويُؤثَر عنه (ع) أنَّه كان يقول: “إِذَا شَبِعَ الْبَطْنُ طَغَى”(19).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.