كلمةُ الصمد لم ترد في القرآن المجيد إلا في سورة التوحيد عند قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ والظاهرُ أنَّ الآية المباركة في مقام التعريف بالله جلَّ وعلا، ويُؤيِّد ذلك ما ورد في سبب نزول السورة فقد روي “أنَّ المشركين قالوا لرسول الله (ص): أنسب لنا ربَّك. فنزلت السورة”(2).
المدلول اللُّغوي لكلمة الصمد:
والصمد بحسب المدلول اللُّغوي من القصد، يقال: رجلٌ صمدٌ أي أنَّه -لسُؤدده وعلوِّ شأنه- مقصودٌ معتمَدٌ في قضاء الحوائج أو أنَّه الذي ينتهي إليه الأمر والنهي أو أنَّه المرجعُ في فصل الأمور، فهو من صَمَدَه يَصْمِدُه صَمْداً وصَمَد إِليه أي قَصَدَه، وصَمَدَه بمعنى قَصْدَه واعتمده، فهو مصمَّدٌ ومصمود أي مقصود ومعتمَد، لذلك يقال للسيِّد المقصود في الحوائج والملمَّات صمدٌ، ويُقال: صمّدتُ فلاناً أصمده صمْداً -بسكون الميم- إذا قصدتُه، ومن ذلك ما ورد في الدعاء المأثور: “اللهم! إليك صَمَدتُ وإيَّاك اعتمدتُ ووجهَك أردتُ”(3) ويُقال: للبيت الرفيع الشأنِ الذي تقصده الناس لقضاء حوائجهم بيتٌ مصمود ومصمَّد -بالتشديد- أَي مَقْصود ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
وَإنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلَاقِنِي ** إلَى ذُرْوَةِ الْبَيْتِ الرَّفِيعِ الْمُصَمَّدِ(4)
منشأ وصف الله تعالى بالصمد:
ومن ذلك يتَّضحُ منشأُ وصفِ اللهِ جلَّ وعلا في الآية بالصمد، فهو تعالى المقصود بالحوائج، وهو المعتمد في قضائها، وعليه المعوَّلُ في جميع الشؤون، وإليه ينتهي الأمرُ كلُّه، وإليه الرجعى والمنتهى.
منشأ تعريف الآية لوصف الصمد:
ومنه يتبَّين -كما أفاد العلامة الطبأطبائي(5)- منشأ دخول لام التعريف في الصمَد، فهي لإفادة الحصر فهو تعالى وحده الصمد على الإطلاق، بمعنى أنَّه إذا أُطلق هذا الاسم فإنَّه لا يصدقُ إلا على الله تعالى، فإنَّ ما عداه قد يكون مقصوداً ولكن في شؤونٍ وأحوال محدودة، وقضاؤها ينتهي في المآل إلى الله تعالى.
فحيثُ إنَّ الله جلَّ وعلا مُوجِدٌ لكلِّ شيء، وكلُّ شيء مفتقِرٌ في وجوده وتدبيره ومُطلقِ شؤونه وأحوالِه -ابتداءً واستمراراً- إلى الله تعالى لذلك فكلُّ شيءٍ فهو محتاج إليه ومنتهٍ إليه، فهو مقصود تكويناً في المآل من كلِّ شيء، فمن يقصدُ سواه يقصده في المآل، إذ لا يسعُ من أحد، ولا يسعُ من شيء قضاء حاجةٍ لأحد إلا عن تمكين الله وإقدارِه، وهو معنى قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾(7).
منشأ مجيء لفظ الجلالة في الآية قبل الصمد:
وأمَّا لماذا جيء بلفظ الجلالة قبل الصمد فقال تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ولم يقل هو الصمد رغم أنَّ الآية التي سبقت هذه الآية قد صرَّحت بلفظ الجلالة، فمنشأ ذلك ظاهراً -كما أفاد العلامة الطبأطبائي(8)- هو أنَّ الآية أرادت الإفادة بأنَّ كلاً من الآيتين صالحة وحدها لتعريف الله جلَّ وعلا، فلأنَّ السورة بصدد تعريف الله جلَّ وعلا ببعض صفاته المختصَّة به لذلك أفادت أنَّ الله أحد، وهي كافية وحدها لتعريفه بصفته، وأفادت أنَّ الله الصمد، وهي كذلك كافية وحدها لتعريفه بصفته، نعم الآية الأولى وصفته بصفة من صفات الذات، فالأحدية هي عين ذات الله جلَّ وعلا، والآية الثانية وصفته بصفةٍ من صفات الفعل، فهو الصمد لأنَّ كلَّ شيءٍ ينتهي إليه فهو الموجِدُ له، وعليه تدبيره.
تعريف الصمد في المأثور:
هذا وقد ورد في المأثور تعريفُ الصمد بما ينتهي إلى المعنى الذي ذكرناه، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنَّ الصمد هو: السيِّد المطاع الذي ليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ”(9) ومعنى ذلك أنَّ هذا الوصف إذا أُطلق فلا يصدقُ إلا على الله تعالى، فهو المطاع وإليه تنقاد الأشياء وليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ، وكلُّ مطاعٍ سواه فإنَّ فوقَه مطاعٌ وآمرٌ وناهٍ.
وورد أنَّ الإمام عليَّ بن الحسين زين العابدين (ع) سُئل عن الصمد؟ فقال: “الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤودُه حفظ شيء، ولا يعزبُ عنه شيء”(10) فهو بصدد أنَّ الصمد هو الله تعالى ومنشأ كونه الصمد هو أنَّه لا شريك له، فهو الإله المعبود وحده، ولا يُعجزه من شيء، فتدبير الأشياء وحفظها يرجع في المآل إليه، فما من حقيرٍ وخطير إلا وهو في سلطانه وينتهي إليه.
وورد عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: حدَّثني أبي زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين بن عليٍّ (ع) أنه قال: “الصمد الذي قد انتهى سُؤددُه، والصمدُ الدائم الذي لم يزل، ولا يزال -والصمدُ الذي لا جوفَ له- والصمدُ الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمدُ الذي لا ينام”(11).
فالصمدُ الذي انتهى سؤدده أي بلغ سؤدده الكمال المطلق، ومن كان كذلك فإنَّه يكون المقصودَ والمرجع لكلِّ الأشياء وإليه ينتهي الخلقُ والأمر، “والصمد الدائم الذي لم يزل، ولا يزال” ومعنى ذلك أنَّه استحقَّ وصف الصمد على الإطلاق لأنَّه الدائم الذي لم يزل ولا يزال” فغيره من المقصودين لم يكونوا كذلك حيث كانوا في حيِّز العدم، وينتهي مآلهم إلى العدم، وهم بين ذلك مفتقرون إلى المُوجِد ابتداءً واستمراراً، فالقصدُ إليهم قصدٌ إلى الله تعالى في المآل.
“والصمد الذي لا جوف له، والصمد الذي لا يأكلُ ولا يشرب، والصمدُ الذي لا ينام” أي أنَّ المستحقُّ لوصف الصمد هو الإله المعبود الذي لا يحدُّه جسم، ولا يكون محتاجاً لمثل الأكل والشرب والنوم كما هو شأن المقصودين، فما مِن مقصودٍ سوى الله تعالى إلا وهو مُحتاج.
معنى آخر لوصف الصمد:
هذا وقد قيل إنَّ: الصمد بمعنى المُصمَت الذي ليس بأجوف، فلا يأكلُ، ولا يشربُ، ولا ينامُ ولا يلدُ ولا يُولد، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾(12) تفسيرا للصمد، ولعلَّ ممَّا يؤيد ذلك ما رُوي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع)، عن أبيه الباقر (ع) أنَّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونَه عن الصمد، فكتب إليهم: “بسم الله الرحمن الرحيم أمَّا بعد: فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادلوا فيه، ولا تكلموا فيه بغير علم، فقد سمعتُ جدِّي رسول الله (ص) يقول: “مَن قال في القرآن بغير علم فليتبوأْ مقعدْه من النار، وإنَّ الله قد فسَّر سبحانه الصمد فقال: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ / وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾(13).
وبناءً على ذلك يكونُ معنى الصمد هو المتعالي والمُنزَّه عن الجسمانيَّة وما يلحقُها من لوازم الحاجة والافتقار، فهو تعالى الغنيُّ عن كلِّ شيء ولا يُكافئه مِن شيءٍ.
الشيخ محمد صنقور
———————–
1– سورة الاخلاص / 2.
2– تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص485.
3– مصباح المتهجِّد -الطوسي- ص687.
4– جمهرة أشعار العرب -محمد بن أبي الخطاب القرشي- ص154، معجم مقاييس اللغة -أحمد بن فارس- ج3 / ص310.
5– الميزان في تفسير القرآن -الطبأطبائي- ج20 / ص388.
6– سورة الأعراف / 54.
7– سورة النجم / 42.
8– الميزان في تفسير القرآن -الطبأطبائي- ج20 / ص388.
9– تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص487.
10-تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص487.
11-تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص487.
12– سورة الإخلاص / 3.
13– تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص487.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.