الظن السيِّء والتجسُّس:
إنَّ الظن على نحوين: فثمَّة الظن الحسن، وثمَّة الظن السيِّئ. وهذه الآية المباركة بصدد النهي والزجر عن الظن السيئ، وليس عن الظن الحسن، ولذلك نتحدث عن علاقة سوء الظن بالتجسُّس، حيث أنَّ الآية المباركة، أردفت النهي عن التجسس بالنهي عن الظن. فما وجه العلاقة بين هذين المعنيين؟.
معنى التجسُّس:
وقبل الحديث عن وجه العلاقة بينهما، لا بد من الوقوف على معنى التجسس.
مفردة ﴿تَجَسَّسُوْا﴾ -الواردة في الآية المباركة- لا تختص بالمعنى السائد بين الناس، وهو أن يكون الرجل عيناً للسلطان الجائر، يُفتِّش عن أحوال الناس وشئوناتهم حتى إذا وقف على يضرُّ بمصلحة السلطان الجائر أبلغه بذلك، فهذا مصداق للتجسس، وليس هو المعنى المتعيِّن لهذا المفهوم -مفهوم التجسس- الذي نهت عنه الآية المباركة، وكذلك الروايات الكثيرة عن الرسول الكريم، وأهل البيت عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
فالتجسُّس هو مطلق التفتيش عن أحوال الناس، بقطع النظر عن الغاية منه، فهو التنقيب والبحث والتتبُّع والمراقبة لما يصدر عن الناس من أفعال وأقوال، وما هم عليه من خصوصيات وشؤون في بيوتهم، وفي علاقاتهم.
ويكون من التجسس -أيضاً- أن تبحث عن خفايا نفس الإنسان، لتتعرَّف على سريرته. كلٌّ ذلك يدخل تحت هذا المفهوم المنهي عنه في الآية المباركة.
دواعي التجسّس:
ثمة أناس شغلهم الشاغل، وهمُّهم أن يُراقبوا الناس في ذهابهم وإيابهم، وفي مقاصدهم، وفيما يقولون، وفيما يفعلون، وفيما يرتبط بشئونهم ومتعلقاتهم وخصوصياتهم، وتراه يطرب ويفرح عندما يقف على عثرةٍ لرجل، أو خطأ لامرأة! بل يبتهج عندما يجد خطأً أو عيباً يرتكبه ولد لرجل، أو بنتاً صغيرةً لرجلٍ أو لامرأة بينه وبينها فتور وجفوة.
هذه من أسوأ الصفات التي يُبتلي بها بعض الناس، وهي تُعبِّر عن عُقَدٍ في النفس، ومُركَّب نقصٍ تنطوي عليه النفس، فهو لا يستطيع أن يتدرَّج في مدارج الكمال، ويُزعجه ألَّا يكون كاملاً، أو في طريقه إلى التكامل، فيحرص على أن يكون الناس مثله، أو يحاول أن يقُنع نفسه بأنَّ الناس مثله؛ حتى تهدأ نفسه، فالمتتبِّع لعثرات الناس حاسدٌ، وحاقد، ولن تجد أحداً يتتبع عثرات الناس إلا وهو كذلك فبين هذه السجية وهذه الحالة النفسية ملازمة لا تكاد تنفك، وكذلك لنن تجد متتبعاً لعثرات الناس إلا وهو معيناً في نفسه يستشعر الحقار والصغار فيكون التتبع متنفساً عما يستشعره من هوان.
النفوس الكبيرة تترفَّع عن التجسس:
أما ذوو المروءات وأصحاب النفوس المتعالية، وكذلك أصحاب القلوب الطاهرة، فتأبى أن تقع في مثل هذا المستنقع القذر. فليس من شيء أسوأ من تجسُّس أحوال الناس، بل إنّ الرجل الشريف -أعني كريم النفس- إذا رأى عيباً غضَّ عنه، وإذا رأى سقطةً من سقطات الرجال قد صدرت من أحدٍ، أعرض عنها، وكأنه لم يشاهدها.
كريم النفس إذا رأى عيباً في غيره يتأذَّى، يستشعر الحزن، يتمنَّى أن لم يكن قد صدر من أخيه ذلك الخطأ، لا أن يفرح لصدوره منه، فيُمسك عليه ذلك العيب، فيشهِّر به، ويستنقصه به بين الناس، وينبز، ويلمز به!
أقرب ما يكون إلى الكفر!
إذا اتضح معنى التجسس، نعرف سرَّ التشديد الذي صدر عن الرسول الكريم، وأهل البيت (ع)، في النهي عن هذه السجيَّة المنبوذة السّيئة.
فمما ورد في ذلك كثيراً هو هذا النص، أو قريب منه-: “أقرب ما يكون الرجل إلى الكفر” الإنسان المؤمن تُبعده عن الكفر مراحل ومسافات، لكنه كلَّما تزيَّا بسجيّة سيئة، كلَّما اقترب من الكفر، وبمقدار ذلك يبتعد عن الإيمان.
فهناك مقرِّبات للكفر، وهناك مبعِّدات عن الكفر، وثمَّة سجايا تخطو بك إلى الكفر خطىً كبيرة واسعة، وهناك سجايا تخطو بك خطىً قصيرة. والتتبُّع لعثرات المؤمنين، من السجايا التي تخطو بالمؤمن نحو الكفر بخطىً واسعة. لاحظوا قوله (ع): “أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يؤاخى الرجل الرجل على دينه فيُحصي عليه عثراته“(2).
المفترض أنَّ إنسان، والإنسان لن يخلو في يومه -أو لا أقل في أسبوعه، أو في شهره- من خطأ، فإذا كنتَ تُحصي عليه أخطاءه، ومضت خمس سنين، فسوف تُحصي عليه أكثر من مائة، أو عشرين، أو أقل، أو أكثر من الأخطاء، تجمعها فتبُّثها! أيُّ شيءٍ أقبح من ذلك؟!.
تقول الرواية: “أن يؤاخى الرجل الرجل على دينه فيُحصي عليه عثراته وزلاته لماذا؟! ليعيره بها“(3)، يجمعها، ويحصيها في ذاكرته، وبعضهم تصل به الخِسَّة إلى أن يكتبها، ثم إذا جاءت الفرصة، عنَّفه بتلك العيوب! ألم ترتكب؟ ألم تقل؟ ألم تفعل؟ في ذلك اليوم؟ في ذلك الوقت؟ في تلك الساعة؟ وهكذا، يُعنِّفه، ويعيِّره بها، أو يُقبِّحه بين الناس بها!!ز
الرسول الكريم، وأهل البيت (ع) يقولون إنّ هذا الشخص هو أقرب الناس إلى الكفر، “من سلَّ سيف البغي، قُتِل به“، و”من حفر حفرةً لأخيه، وقع فيها“، و”ومن كشف حجاب غيره، تكشَّف الناس على عورات بيته“، هكذا يقول أهل البيت (ع).
من تتبَّع عثرات أخيه
إن من يتتبع عثرات أخيه المؤمن ثم يفشيها بين الناس ليسقطه من أعينهم فإن لا تمضي السنون حتى يرتكب خطأ يذيع بين الناس فيكون سبَّة عليه ورد إلى أن يموت، فقد ورد في الحديث الشريف، أنَّ الرسول الكريم (ص) قال لأصحابه -عند ما دخل المدينة وبقي برهةً فيها-، قال: “كان بالمدينة أقوام لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت اللهُ عن عيوبهم الناس، فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس. وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم أي العيوب يراها الناس، فتكلموا في عيوب الناس، فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا“(4).
وورد أيضاً عن الرسول الكريم (ص) أنه قال: “لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنَّ من تتبع عثرات أخيه، تتبَّع الله عثراته“(5).
فرقٌ.. أنت تلتفت وتغفل، تُصدَّق وتُكذَّب، أما الله -عز وجل- فإنه لا يغفل ولا يسهو -جلَّ شأنه-، وهو القادر على أن يصنع مقتضيات التصديق عند الناس. فما هو وجه المقارنة بينك، وبين الله؟!.
متى بارزتَ الله، وحاربتهَ، بأن أفشيت أسرار عباده، فإنّ الله منتقمٌ لهم منك، يتتبع عثراتك ثم يفضحك وأنت في بيتك، وبين ذويك وأَخصَّائك -هذا هو الوعد النبويّ-، ومن تتبَّع اللهُ عثراته، يفضحه ولو في جوف بيته.
كفى به عيباً
يقول الإمام الباقر (ع): “كفى بالمرء عيباً، أن يتعرَّف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه“(6).
وهذه هي مشكلة مَن يتزَّيا بهذه السجيَّة السَّيئة فهو غالباً ما يكون مُعجباً بنفسه، أو غاضًّا عنها -رغم استشعاره من الداخل بأنَّه ناقص-.
وأسوأ عيبٍ أن يعيش الإنسان هذه الحالة، فينسى أنَّه مُخطئ، وينسى أنَّه ناقص، وينسى أنَّه يرتكب الخطأ، وينسى أنَّ له عيوباً، فيتتبَّع عيوب الناس وعثراتهم!.
والإمام الباقر -أبو جعفر- (ع) يقول: يكفي هذا المرء أن يكون هذا عيبه، لو لم تكن له عيوب أخرى،: “كفى بالمرء عيباً أن يتعرف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه“. أو يعيب على الناس أمراً هو واقعٌ فيه، ولا يستطيع التحوَّل منه إلى غيره؟! هو لا يتمكَّن من أن يُقلع عن هذا العيب، وهو يعيب به الناس!
العلاقة بين سوء الظنّ والتجسّس:
إذا اتضح معنى التجسُّس، وأنه من أسوأ الخلق يقع الحديث عن وجه العلاقة بين سوء الظن، وبين التجسس؟ قد يتفق أن يحصل سوء الظن بلا سببٍ مقصود، فقد يفاجئك موقفٌ من أخيك لم تتعمَّد الوقوف عليه، ويكون ذلك الموقف مشبوهاً، فينشأ في نفسك من ذلك احتمالٌ ضعيف، أو ظنٌّ بأنه قد ارتكب عيباً، أو خطئاً ما، وهنا يدعوك الفضول إلى أن تتأكد، هذا التأكُّد هو نوعٌ من التجسُّس.. إذ كيف ستتأكّد؟.
ستسأل، وتبحث، وتطالع، وتراقب، وتتابع، وتسأله، وتسأل غيره، وهكذا يقودك سوء الظنّ إلى التجسس، فكان الآية الشريفة تنهى عن متابعة الظن السىء بالتجسس لغرض توكيده، ولعل ذلك ما يمكن استفادته أيضاً من ما ورد عن الرسول (ص): “إيَّاكم والظنّ، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تجسَّسوا، ولا تحسَّسوا“(7)، فإذا ظننت بأخيك سوءاً فإنّ وظيفتك أن تطرد الظن عن نفسك، وأن تحمل أخاك -كما قلنا سابقاً- على محمل الخير، أما أن تحاول التأكّد، فكيف سيكون التأكُّد؟ لن يكون إلَّا عبر التجسُّس، ومتابعة هذا الشخص، ومراقبته، حتى تتوثق من ظنك.
وفي بعض الأحيان لا يكون لدى الإنسان ظن، بل تكون وظيفته، وشُغله الشاغل، وسجيَّته أن يجلس في الطُّرقات، أو أن يجلس في المحافل، ويسمع ويُصغي، ماذا قال فلان؟ وماذا فعل وماذا فعلت بنت فلان؟ وماذا فعل ابن فلان؟ فيتبحَّث، ويطالع، ويروح ويجيء، وشغله مطالعة الناس وما يفعلون وما يقولون، فينشأ نتيجة التجسُّس ظنٌ بالسوء.
لذلك قال علماء الأخلاق بأن كلاًّ منهما يُؤثِّر في الآخر، يتجسَّس فيُسيء الظن، ويُسيء الظن فيتجسَّس. فإذا ظنَّ، وأساء الظنّ، وتجسَّس فحينئذٍ سوف يقف على أمورٍ، يجهلها الناس، أو قد يكونون غفلةٍ عنها، ثم إنَّ هذه المعلومات التي وقف عليها تظلُّ، تعتلج في نفسه، فيغتاب، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجَسْسُّواْ وّلاّ يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضَاً﴾(8)، فهو تسلسل طبيعي: أولاً يسيء الظن، ثم يتجسَّس ليتأكد، ثم لمَّا يطّلع على أسرار الناس وخفاياهم وعيوبهم، يقوم بإفشائها بين الناس، ويغتابهم.
الشيخ محمد صنقور
—————————
1- سورة الحجرات / 12.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 276.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 276.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 292.
5- شرح أصول الكافي -مولي محمد صالح المازندراني- ج 10 ص 4.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 289.
7- شرح رسالة الحقوق -الإمام زين العابدين (ع)- ص 634.
8- سورة الحجرات / 12.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.