هل تمَّ التمثيلُ بابن ملجم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل صحَّ ما يُقال إنَّ ابن ملجم قد تمَّ التمثيلُ به قبل قتله، فقُطعت يداه ورجلاه وسُملتْ عيناه وقُطع لسانه قبل قتله ثم أُحرقت جثَّته، وإذا صحَّ ذلك ألا ينافي ما ورد من وصيَّة الإمام عليٍّ (ع) بأنْ لا يُمثَّل بجثَّة الرجل؟
الجواب:
لم يصح أنَّ المخذول عبد الرحمن بن ملجم أخزاه الله تعالى قد تمَّ التمثيل بجثَّته قبل قتله أو بعده، نعم أوردَ ذلك بعضُ مؤرِّخي العامَّة إلا أنَّ الواضح من هذه الأخبار التي أوردوها أنَّها مكذوبة، وأنَّها اختُلقت لغرض الإساءة لأهل البيت (ع) ولتبرير ما يفعلُه الطغاة بخصومِهم، وقبل استعراض هذه الأخبار المكذوبة والتعليق عليها نستعرضُ عددًا وافرًا من الروايات والنصوص الواردة من طُرق الفريقين تكشفُ وحدها بنحو القطع عن كذب ما أورده بعضُ المؤرِّخين من دعوى تمثيل أهل البيت (ع) بجثَّة الشقيِّ عبد الرحمن بن ملجم أخزاه الله تعالى.
تواتر النصوص على النهي عن التمثيل بابن ملجم:
النصُّ الأول: ما أورده الشريف الرضي في نهج البلاغة وغيرُه قال: ومن وصيّةٍ له (عليه السّلام) للحسن والحسين (عليهما السّلام) لمَّا ضربه ابنُ ملجم لعنه الله: أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ وأَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا، ولَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا .. ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضًا، تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ”([1]).
أقول: فهذه الرواية صريحةٌ في التأكيد على النهي عن التمثيل بابن ملجم وأنَّه لا يُتجاوز به أكثر من القصاص والذي عبَّر عنه بقوله: “فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ” ثم ذكَّر بني عبد المطلب بنهي رسول الله (ص) عن المُثلة حتى بالكلب العقور قال: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ” فهل يسعُهم بعدَ هذا المخالفة، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والإمام الحسن(ع) بينهم مبسوطُ اليد، وهو مع أخيه سيد الشهداء أولياءُ الدم.
النصُ الثاني: ما أورده الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في التهذيب بسنٍ معتبر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أوصى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن، وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح، ثم قال لابنه الحسن: يا بُني أمرني رسولُ الله أنْ أُوصي إليك، وأنْ أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إليَّ رسولُ الله (ص) ودفع إليَّ كتبَه وسلاحه، وأمرني أنْ آمرك إذا حضرت الموت أنْ تدفعَ إلى أخيك الحسين، ثم أقبل على ابنه الحسين وقال: أمرك رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) أنْ تدفعه إلى ابنك هذا، ثم أخذ بيد ابن ابنه عليِّ بن الحسين، ثم قال لعليِّ بن الحسين: يا بُني وأمرك رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) أنْ تدفعه إلى ابنك محمد بن عليٍّ واقرئه من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ومني السلام، ثم أقبل على ابنه الحسن، فقال: يا بني أنت وليُّ الأمر ووليُّ الدم، فإنْ عفوت فلك، وإنْ قتلتَ فضربةٌ مكانَ ضربة ولا تأثم”([2]).
أقول: فقوله (ع): “فضربةٌ مكانَ ضربة” صريحٌ في الأمر بعدم تجاوز القصاص إلى غيره وأنْ لا يَتجاوز القصاص حدَّ الضربة القاتلة، ومعنى ذلك هو النهي عن التمثيل بجثته قبل القصاص وبعده، فإنَّ ذلك هو معنى قوله: “فضربةٌ مكانَ ضربة” وإلا لم تكن ضربة مكان ضربة، ثم أكَّد (ع) ذلك بقوله: “ولا تأثم” أي لا تتجاوز من القصاص إلى التمثيل بجثَّة الرجل.
النص الثالث: ما أورده الشيخ الصدوق بسنده إلى سليم بن قيس الهلالي قال: “شهدتُ وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه الحسن وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته (عليهم السلام)، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح، ثم قال (عليه السلام): يا بنى أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أوصى إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودفع إلى كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين، قال: ثم أقبل على ابنه الحسين (عليه السلام) فقال: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى ابنك علي بن الحسين، ثم أقبل على ابنه علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفع وصيتك إلى ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنى السلام. ثم اقبل على ابنه الحسن (عليه السلام) فقال: يا بنى أنت ولى الامر وولى الدم فإن عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم ..”([3]).
أقول: هذا النصُّ قريبٌ من النصِّ الذي أورده الكليني لكنَّ الشيخ الصدوق أورده من طريقٍ آخر عن رجلٍ من شهود العيان وهو الثقاة الأجلاء.
النصُّ الرابع: ما أورده عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، أنَّ عليَّ بن أبي طالب لما قتله ابنُ ملجم قال: “احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا أساره، فإنْ عشتُ فأنا أولى بما صنع بي: إنْ شئتُ استقدتُ، وإنْ شئتُ عفوتُ، وإنْ شئتُ صالحتُ، وإنْ متُّ فذلك إليكم، فإنْ بدا لكم أنْ تقتلوه فلا تمثِّلوا به”([4]).
أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا في النهي عن التمثيل بالرجل، ومقتضى ذلك هو النهي عن التمثيل به قبل قتله وبعده، بل إنَّ الإمام(ع) لكرم أخلاقه ونُبْلِه أوصى بالإحسان إلى قاتله ولم يُلزمْهم بإقامة حدِّ القصاص عليه، فلهم أنْ يعفوا عنه إلا أنَّهم إذا اختاروا القصاص وهو حقُّهم فلزامًا عليهم أنْ لا يُمثِّلوا به.
النص الخامس: ما أورده الكليني في الكافي قال: عن عدَّةٍ من أصحابنا عن الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَسَنِيُّ رَفَعَه ومُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الأَحْمَرِيِّ رَفَعَه قَالَ: لَمَّا ضُرِبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) حَفَّ بِه الْعُوَّادُ، وقِيلَ لَه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصِ فَقَالَ: اثْنُوا لِي وِسَادَةً ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لله حَقَّ قَدْرِه مُتَّبِعِينَ أَمْرَه وأَحْمَدُه كَمَا أَحَبَّ ولَا إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ كَمَا انْتَسَبَ أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ فِي فِرَارِه مَا مِنْه يَفِرُّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْحَسَنِ (ع) فَقَالَ: يَا بُنَيَّ ضَرْبَةً مَكَانَ ضَرْبَةٍ ولَا تَأْثَمْ”([5]).
أقول: مفاد هذه الرواية كمفاد الرواية الأخرى التي أوردها الكليني عن أبي جعفر الباقر (ع) وهي مثلها في الوضوح والتأكيد على عدم التجاوز للقصاص.
النص السادس: ما أورده الشيخ المفيد في الاختصاص: بإسناده عن كتاب ابن دأب عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أنَّه قال لابنه الحسن: “يا بني، اقتل قاتلي، وإياك والمثلة، فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، كرهها ولو بالكلب العقور”([6]).
أقول: هذه الرواية صريحةٌ أيضًا في تحذير الإمام (ع) من التمثيل بالرجل، وأنَّ ذلك ممَّا نهى عنه الرسول (ص) ومن المقطوع به أنَّ أهل البيت (ع) لا يتجاوزون نهيَ رسول الله (ص) وأمرِه.
النص السابع: ما أورده عبد الله بن جعفر في قرب الأسناد عن السندي بن محمد قال: حدَّثني أبو البختري عن جعفر عن أبيه قال: أخبرني أبي أنَّ الحسن (عليه السلام) قدَّمه ليضربَ عنقه بيده، فقال: قد عهدتُ الله أنْ اقتل أباك وقد وفيتُ فإنْ شئتَ فاقتل، وإنْ شئت فاعفُ وإنْ عفوتَ ذهبتُ إلى معاوية فقتلتُه وأرحتُك منه ثم جئتُك فقال: لا حتى أعجِّلك إلى النار، فقدَّمه فضربَ عنقه”([7]).
أقول: وهذه الرواية صريحة في أنَّ الإمام الحسن (ع) لم يزد على أنْ ضرب عنق ابن ملجم قصاصًا، وأنَّه التزم بما أوصاه به أميرُ المؤمنين (ع).
النص الثامن: أبو الحسن البكري في مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام): بإسناده عن لوط بن يحيى، عن أشياخه، وساق القصَّة إلى أنْ ذكر في وصاياه إلى الحسن (عليه السلام): “بحقِّي عليك، فأطعمْه يا بُني ممَّا تأكل، واسقِه ممَّا تشرب، ولا تقيِّد له قدما، ولا تغلَّ له يدًا، فإنْ أنا متُّ فاقتصَّ منه بأنْ تقتلَه وتضربه ضربةً واحدة، ولا تحرقْه بالنار، ولا تمثِّل بالرجل، فإنِّي سمعتُ جدَّك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول: إيَّاكم والمثلة ولو بالكلبِ العقور”([8]).
أقول: وكذلك فإنَّ هذه الرواية صريحةٌ في النهي عن التمثيل بقاتله وأنْ لا يتجاوز معه حدَّ القصاص والذي لا يزيد على ضربةٍ واحدةٍ قاتلة، فلا يُحرَق ولا يمثَّل بجسده قبل القتل وبعده وإلا يكون قد تجاوز الضربة الواحدة المأمور بها، ثم إنَّ الإمام(ع) لسموِّ أخلاقه ونبله أمرَ بالإحسان إلى قاتله قبل القصاص، فنهى عن تقييد يديه ورجليه وأمرَ بإطعامه من ذات الطعام الذي يأكلونه والشراب الذي يشربونه.
النص التاسع: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: ما رواه جماعة من أهل السير: منهم أبو مخنف لوط بن يحيى، وإسماعيل بن راشد، وأبو هشام الرفاعي وأبو عمرو الثقفي، وغيرهم “.. فلما قضى أمير المؤمنين عليه السلام، وفرغ أهلة من دفنه، جلس الحسن عليه السلام وأمر أن يؤتى بابن ملجم، فجئ به، فلما وقف بين يديه قال له: “يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين، وأعظمت الفساد في الدين” ثم أمر به فضربت عنقه ..”([9]).
أقول: وهذه الرواية تدلُّ على أنَّ الإمام الحسن (ع) قد التزم حرفيًا بما أوصى به أميرُ المؤمنين (ع) من عدم التجاوز لحدِّ القصاص.
النص العاشر: ما أورده أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين قال أبو مخنف: فحدثني أبي، عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: أُدخل ابن ملجم لعنه الله على عليٍّ (ع) ودخلتُ عليه فيمن دخل، فسمعتُ عليًّا (ع) يقول: النفس بالنفس إنْ أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمتُ رأيتُ فيه رأيي”([10]).
أقول: قوله (ع): “النفس بالنفس” إشارة إلى الآية الشريفة التي شرَّعت القصاص وهي قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾([11]) فلا يسوغ لوليِّ الدم التجاوز لذلك، ثم أكَّد (ع) ذلك بقوله: “إنْ أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني”.
النصُّ الحادي عشر: ما أورده عددٌ من المحدِّثين والمؤرِّخين قالوا: رُوي أنَّه لمَّا ضربه ابنُ ملجم أوصى إلى الحسن والحسين وصيةً طويلة في آخرها: يا بني عبد المطلب؛ لا تخوضوا دماء المسلمين خوضًا، تقولون قُتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي: انظروا، إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً، ولا تُمثِّلوا به، فإنِّي سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: “إيَّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور”([12]) أخرجه الفضائلي.
أقول: وهذه الرواية شبيهةٌ بما أورده الشريف الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة، وهي صريحة في النهي عن المثلة بقاتله، ومقتضاه النهي عن ذلك قبل القصاص وبعده، فلا يُتجاوز معه الضربة القاتلة كما أفاد (ع): “فاضربوه ضربةً”.
النصُّ الثاني عشر: ما أورده ابن أبي الدنيا المتوفى 281 ه، في كتابه مقتل أمير المؤمنين (ع) قال: حدَّثنا الحسين حدَّثنا عبد الله قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن صالح حدَّثنا عمرو بن هاشم عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر قال: لما ضُرب عليٌّ تلك الضربة قال: ما فعل ضاربي قالوا: قد أخذناه قال: أطعموه من طعامي واسقوه من شرابي، فإنْ أنا عشتُ رأيتُ فيه رأيي، وإنْ أنا متُّ فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها “([13]).
أقول: لو كانوا قد قطعوا أطرافه وأحرقوه لكانوا قد زادوا على الضربة المأمور بها، وهو ما ينافي وصيته الممتنع على أهل البيت (ع) تجاوزها.
النصُّ الثالث عشر: ما أورده ابنُ سعد في الطبقات الكبرى قال: قال أخبرنا خالد بن مخلد ومحمد بن الصلت قالا: أخبرنا الربيع بن المنذر عن أبيه عن ابن الحنفية قال: دخل علينا بن ملجم .. فقال عليٌ: إنَّه أسيرٌ، فأحسِنوا نُزُله، وأكرموا مثواه، فإنْ بقيتُ قتلتُ أو عفوتُ، وإنْ متُّ فاقتلوا قتلي، ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([14])([15]).
أقول: الاعتداء المنهيُّ عنه في الآية التي استشهد الإمام (ع) بها يعني التعدِّي عن القصاص إلى التمثيل كما أوضحت ذلك رواياتٌ أخرى، ويعني التعدِّي من القاتل إلى غيره.
النصُّ الرابع عشر: ما أورده ابن أبي الدنيا المتوفى 281 ه في كتابه مقتل أمير المؤمنين (ع) قال: حدَّثنا الحسين حدثنا عبد الله، حدَّثنا سعيد بن يحيى القرشي، حدَّثنا عبد الله بن سعيد عن زياد بن عبد الله قال: قال: مجالد دُعيَ لعليٍّ (ع) الكندي، وكان طبيبًا، فدعا برئةٍ فأخذ منها قديدةً لطيفةً فيها عرقها ثم نفخَها ودسَّها في جرحه، ثم أخرجها، فإذا عليها مِن دماغه، فقال اعهد يا أمير المؤمنين لا يُعالَجُ مثلك، فقال عليٌّ عند ذلك: إنْ متُّ فاقتلوه، فإنَّما النفسُ بالنفس، وإنْ عشتُ فسأرى رأيي”([16]).
أقول: قوله (ع): “فإنَّما النفس بالنفس” إشارةٌ إلى الآية الشريفة التي شرَّعت القصاص وهي قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾([17]) فلم يأذن -بمقتضى هذه الوصية- لوليِّ الدم التجاوز لذلك.
النصُّ الخامس عشر: ما أورده ابن أبي شيبة في المصنَّف قال: حدَّثنا عليُّ بن مسهر عن الأجلح عن الشعبي قال: اكتنفَ عبد الرحمن بن ملجم وشبيب الأشجعي عليًّا (ع) .. ثم أحصر نحو باب الفيل، فأدركه عريض أو عويض الحضرمي، فأخذه فأدخله على عليٍّ (ع)، فقال عليٌّ (ع): إنْ أنا متُّ فاقتلوه وإنْ شئتم أودعوه، وإنْ أنا نجوتُ كان القصاص”([18]).
أقول: الإمام (ع) خيَّرهم بمقتضى هذه الرواية بين القصاص والعفو، وأفاد أنَّه إن نجى من أثر الضربة فالقصاص يعني قصاص الجروح كما قال تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾([19]) فلم يُطبِّق الإمام (ع) على قاتله حدَّ الحرابة.
النصُّ السادس عشر: ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف -في ذكر ما جرى بعد اغتيال الإمام (عليه السلام)-: أمّا ابن ملجم فأُخذ وأُدخل على عليّ (ع)، فقال: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه، فإنْ أعِش فأنا وليّ دمي؛ فإمّا عفوت وإمّا اقتصصت، وإن أمُت فألحِقوه بي ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([20]).
أقول: استشهادُ الإمام (ع) بالآية الشريفة معناه النهي عن التعدِّي من القصاص إلى المُثلة، ومنه إلى قتل غير قاتله.
النصُّ السابع عشر: ما أورده اليعقوبي في تاريخه قال: “اجتمع الناس، فبايعوا الحسن بن عليّ، وخرج الحسن بن عليّ إلى المسجد الجامع، فخطب خطبةً له طويلة، ودعا بعبد الرحمن بن ملجم، فقال عبد الرحمن: ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني أنْ لا أقتل غير قاتله، وأن أُشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإنْ عاش أقتصّ أو أعفو، وإنْ مات أُلحقنّك به. فقال ابنُ ملجم: إن كان أبوك ليقول الحقّ ويقضي به في حال الغضب والرضا، فضربه الحسن بالسيف، فالتقاه بيده فنَدَرَتْ، وقتله”([21]).
أقول: هذه الرواية اشتملت على بيان الإمام الحسن (ع) لما أوصاه به أبوه وأنَّه أمره بإلحاق قاتله به كما أنَّها صريحةٌ بأنَّه (ع) لم يتجاوز معه حدَّ القصاص.
النصُّ الثامن عشر: “فلما احتضر وأيقنَ بمفارقة الدنيا، والقدوم على ربه، جمع ولده وأهله ثم أقبل على الحسن ابنه فقال: يا بُني أنت أولى بالأمر بالدم بعدي، فإنْ عفوتَ فلك، وإنْ قُتلتُ، فضربة مكان ضربة ولا تُمثِّل”([22]).
أقول: فهذه الرواية صريحةٌ في النهي عن التمثيل بقاتله وأنَّ مكان الضربة القاتلة ضربةٌ قاتلة مثلها، وهو تعبير آخر عن القصاص.
النصُّ التاسع عشر: عن الزبير بن بكار قال: كان من بقي من الخوارج تعاقدوا على قتل على ومعاوية وعمرو بن العاص، فخرج لذلك ثلاثة، فكان عبد الرحمن بن ملجم هو الذي التزم لهم قتل عليٍّ (ع) فدخل الكوفة عازمًا على ذلك, وضربه ابنُ ملجم على رأسِه .. فشدَّ الناس عليه مِن كلِّ جانب فأخذوه .. فلمَّا أُخذ قال عليٌّ احبسوه، فانْ متُّ فاقتلوه، ولا تُمثِّلوا به، وإنْ لم أمتْ فالأمرُ إليَّ في العفو أو القصاص. أخرجه أبو عمر”([23]).
أقول: وكذلك هذه الرواية صريحةٌ في النهي عن التمثيل بقاتله، وأنَّ لهم إقامة حدَّ القاص عليه.
النصُّ العشرون: ما أورده الطبراني في المعجم الكبير عن محمد بن حنيف قال: “.. أُخذ بن ملجم فأُدخل على عليٍّ (ع) فدخلتُ فيمَن دخل من الناس فسمعتُ عليَّا (ع) يقول النفس بالنفس، إنْ هلكتُ فاقتلوه كما قتلني، وإنْ بقيتُ رأيتُ فيه رأيي ..”([24]).
أقول: قوله (ع): “النفس بالنفس” إشارة إلى الآية الشريفة التي شرَّعت القصاص وهي قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ فلم يأذن -بمقتضى هذه الوصية- لوليِّ الدم التجاوز لذلك.
النصُّ الحادي والعشرون: قال أبو مخنف: فحدَّثني أبي، عن عبد الله بن محمد الأزدي، قال: أُدخل ابن ملجم على عليٍّ عليه السلام، ودخلتُ عليه فيمَن دخل، فسمعتُ عليًّا يقول: النفسُ بالنفس، إنْ أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإنْ سلمت رأيتُ فيه رأيي”([25]).
أقول: هذه الرواية كالتي سبقتها ولعلَّها عينها ذكرناها لاختلاف طريقها والراوي لها وهو من شهود العيان.
النصوص العامة الناهية عن التمثيل بالقاتل:
هذه مجموعة وافرة من النصوص وقد أغفلنا ذكر أخرى بذات المضامين المذكورة حرصًا على الإيجاز، وهذه الروايات تنصُّ صريحًا -كما لاحظتم- على أنَّ الإمام (ع) أوصى الإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع) وسائر بني عبد المطلب بأنْ لا يمثَّل بقاتله وأنَّ لا يُزاد على القصاص وأنَّ رسول الله (ص) نهى عن المثلة ولو بالكلب العقور، فهل يصحُّ أنْ يتوهَّم أحدٌ يخشى الله تعالى أنَّ ينقض سيدا شباب أهل الجنَّة وصيَّة أمير المؤمنين (ع) وأنْ يتجاوزا نهيَ رسول الله (ص) سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. هذا وقد نصَّت بعضُ هذه الروايات على أنَّ الإمام الحسن (ع) التزم بحدود ما أوصاه به أميرُ المؤمنين (ع).
هذا بقطع النظر عن الروايات العامَّة الواردة عن أهل البيت (ع) والتي نصَّت على حرمة تمثيل أولياء الدم بالقاتل، فمِن ذلك: ما أورده الكليني في الكافي عن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (ع): إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِه: ﴿ومَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّه سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّه كانَ مَنْصُورًا﴾([26]) فَمَا هَذَا الإِسْرَافُ الَّذِي نَهَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ عَنْه قَالَ: نَهَى أَنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِه أَوْ يُمَثِّلَ بِالْقَاتِلِ قُلْتُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِه: إِنَّه كانَ مَنْصُورًا قَالَ: وأَيُّ نُصْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُدْفَعَ الْقَاتِلُ إلى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَيَقْتُلَه ولَا تَبِعَةَ تَلْزَمُه مِنْ قَتْلِه فِي دِينٍ ولَا دُنْيَا”([27]).
أقول: مفاد هذه الرواية أنَّ إسراف أولياء الدم في القتل المنهي عنه في الآية هو التمثيل بالقاتل.
ومنها: ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالا: سَأَلْنَاه عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا فَلَمْ يَقْلَعْ عَنْه حَتَّى مَاتَ أيُدْفَعُ إلى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فَيَقْتُلَه قَالَ: نَعَمْ ولَا يُتْرَكُ يَعْبَثُ بِه ولَكِنْ يُجِيزُ عَلَيْه بِالسَّيْفِ”([28]).
أقول: مفاد الرواية هو أنَّ على الإمام (ع) أنْ لا يأذن لأولياء الدم في العبث بالقاتل، وهو تعبيرٌ آخر عن التمثيل به، فلا يأذن لهم بأكثر من أن يُجيزوا عليه بالسيف يعني القصاص.
ومنها: ما أورده الصدوق بسنده عن موسى بن بكر، عن العبد الصالح (عليه السلام) “في رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع عنه العصا حتى مات، قال: يدفع إلى أولياء المقتول ولكن لا يترك يتلذذ به ولكن يجاز عليه بالسيف”([29]).
وقد أوردها الكليني من طريق آخر عن مُوسَى بْنِ بَكْرٍ عَنْ عَبْدٍ صَالِحٍ ع فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا فَلَمْ يَرْفَعِ الْعَصَا حَتَّى مَاتَ قَالَ يُدْفَعُ إلى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ولَكِنْ لَا يُتْرَكُ يُتَلَذَّذُ بِه ولَكِنْ يُجَازُ عَلَيْه بِالسَّيْفِ”([30]).
أقول: ودلالة هذه الرواية كدلالة الرواية التي سبقتها فلا يُرخَّص لأولياء الدم التشفِّي من القاتل بمثل التمثيل بجسده بل ولا بأدنى من ذلك كتعذيبه.
ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق بسندٍ صحيح عنه هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: “سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل ضرب بعصا فلم تُرفع عنه حتى قتل أيدفع القاتل إلى أولياء المقتول؟ قال: نعم، ولكن لا يترك أن يعبث به ولكن يجاز عليه “([31]).
أقول: ودلالتها على المطلوب كدلالة الروايات التي سبقتها.
ومنها: ما أورده القاضي النعمان في دعائم الاسلام: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنَّه قال: “لا قود إلا بالسيف”. وعنه (صلَّى الله عليه وآله)، أنَّه نهى عن المثلة([32]).
أقول: ودلالة الرواية واضحة في النهي عن المثلة والتي تعني التقطيع لأطراف القاتل أو تحريقه أو تشويه جسده. وأنَّ القوَد يعني القصاص لا يكون إلا بالسيف.
هذه مجموعة من الروايات العامَّة إذا تمَّ ضمُّها إلى الروايات السابقة فإنَّه يتشكَّل من مجموعها تواترٌ إجمالي بل إنَّها تفوق مرتبة التواتر الإجمالي خصوصًا إذا ضُمَّ إليها ما ورد في طرق العامَّة من النهي عن المُثلة، ومن ذلك يتبيَّن حجم الجناية المقترفة من قِبَل من زعم أنَّ الإمام الحسين (ع) وبعض بني عبد المطلب قاموا بالتمثيل والتنكيل بجثَّة عبد الرحمن بن ملجم أخزاه الله تعالى، فإنَّ مؤدَّى هذه الفِرية هو أنَّ الإمام الحسين (ع) قد نقض وصيَّة أبيه(ع) المغلَّظة، وتجاوز نهيَ رسول الله (ص) وهو من العترة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا.
التعليق على فِرية التمثيل بابن ملجم:
وكيف كان فعمدةُ ما يتداوله المؤرِّخون نصَّان:
الأول: أورده عبد الرزاق الصنعاني في المصنَّف عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم قال: أخبرني قثم مولى الفضل بن عباس: أنَّ عليا دعا حسينًا ومحمدًا، فقال: بحقِّي لما حبستما الرجل، فإنْ متُّ منها فقدِّماه فاقتلاه، ولا تمثِّلا به، قال: فقطَّعاه وحرَّقاه، قال: ونهاهما الحسن رضي الله عنه([33]).
وأخرجها الضحَّاك في كتابه الآحاد والمثاني بذات السند مع تفاوت في بعض المضامين رغم أنَّه نقله عن الصنعاني نفسه قال: حدثني حجاج بن يوسف حدَّثنا عبد الرزاق عن بن جريح عن عبد الكريم بن أمية عن قثم مولى الفضل قال: لما طعن ابنُ ملجم عليًّا رضي الله تعالى عنه قال: لحسن وحسين ومحمد عزمتُ عليكم لما حسبتم الرجل، فإنْ متُّ فاقتلوه ولا تمثِّلوا به، قال: فلمَّا مات رضي الله تعالى عنه قام إليه حسينٌ ومحمدٌ رضي الله تعالى عنهما فقطَّعاه وحرَّقاه ونهاهما الحسن”([34]).
ويكفي لسقوط هذه الرواية عن الاعتبار اشتمالها على عبد الكريم بن أميَّة أو أبو أميَّة وهو متفقٌ على ضعفه كما قال الشوكاني في نيل الأوطار([35]) والعظيم آبادي في عون المعبود([36]) وقال أيوب السختياني: لا يُحملُ عن عبد الكريم بن أمية، فإنَّه ليس بثقة كما في كتاب المجروحين لابن حبَّان([37]) وقال: يحيى بن معين: عبد الكريم أبو أمية ليس بشيء كما في المجروحين لابن حبان([38]) وقال عنه ابن حزم: أبو أمية هالكٌ كما في عمدة القاري للعيني([39]).
هذا مضافًا إلى أنَّ قثم مولى الفضل بن عباس مجهول، فالرواية في غاية السقوط، فلا يُعتدُّ بها بقطع النظر عمَّا يناقضها من الروايات المتواترة. والواضح من سَوْق الرواية هو تعمُّد الراوي إلى التنقُّص من الإمام الحسين (ع) والسيد محمد بن الحنفيَّة حيث صدَّرها بتأكيد الإمام علي (ع) على نهيه لهما عن التمثيل بابن ملجم وأقسم بحقِّه عليهما أنْ لا يفعلا ذلك ثم ذكر أنَّهما تعمَّدا مناقضة نهي أمير المؤمنين (ع) فقاما بزعمه بتقطيع ابن ملجم وتحريقه كما أنَّ الرواية قد اشتملت على ما يقتضي تجاوز الإمام الحسين (ع) لنهي الإمام الحسن (ع) وكأنَّها أرادت الغمز من طرفٍ خفي في الإمام الحسن (ع) والإشارة إلى ضعفه وأنَّه عجز عن إنفاذ وصيَّة أبيه (ع) ولا تصدر مثل هذه الفِرية إلا عن ناصبيٍّ قد غرق في نُصبه ونفاقه.
الثاني: ما أورد ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: “وكان عبد الرحمن بن ملجم في السجن، فلمَّا مات عليٌّ رضوان الله عليه ورحمته وبركاته ودُفن بعث الحسن بن علي إلى عبد الرحمن بن ملجم فأخرجه من السجن ليقتله، فاجتمع الناس وجاؤوه بالنفط والبواري والنار، فقالوا: نحرقه فقال: عبد الله بن جعفر، وحسين بن علي، ومحمد بن الحنفية دعونا حتى نشفيَ أنفسنا منه، فقطع عبدُ الله بن جعفر يديه ورجليه، فلم يجزع، ولم يتكلَّم، فكحل عينيه بمسمارٍ محمى فلم يجزع، وجعل يقول إنَّك لتكحل عيني عمِّك بملمولٍ مض، وجعل يقول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ / خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾([40]) حتى أتى على آخر السورة كلِّها وإنَّ عينيه لتسيلان ثم أُمر به فعُولج عن لسانه ليقطعه فجزع، فقيل له قطعنا يديك ورجليك وسملنا عينيك يا عدوَّ الله فلم تجزع، فلما صرنا إلى لسانك جزعت؟ فقال: ما ذاك منِّي من جزع إلا أنِّي أكرهُ أنْ أكونَ في الدنيا فواقا لا أذكرُ الله فقطعوا لسانه، ثم جعلوه في قوصرة وأحرقوه بالنار”([41]).
وأورد ذات الخبر البلاذري في أنساب الأشراف مع اختلاف يسير قال: قالوا: وكان ابن ملجم رجلًا أسمر حسن الوجه أبلج، شعره من شحمة أذنيه، مسجدا -يعنون أن في وجهه أثر السجود- فلما فُرغ من أمر عليٍّ ودفنه، أُخرج إلى الحسن ليقتله، فاجتمع الناس وجاؤوا بالنفط والبواري والنار فقالوا: نحرقه، فقال ولده وعبد الله بن جعفر دعونا نشفِ أنفسنا منه .. ثم بدر عبدُ الله بن جعفر فقطعَ يديه ورجليه، وهو ساكت لا يتكلَّم، ثم عمد إلى مسمارٍ محميّ فكحلَ به عينيه فلم يجزع .. ثم قرأ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حتى فرغ منها وعيناه تسيلان، ثم عُولج عن لسانه ليُقطع فجزع، ومانعهم فقيل له: أجزعت؟ قال: لا ولكنِّي أكرهُ أنْ أبقى فواقا أو قال: رفغا لا أذكر الله فيه بلساني. فقطعوا لسانه ثم إنَّهم جعلوه في قوصرة كبيرة، ويقال: في بواري وأُحرق بالنار .. ويقال: إنَّ الحسن ضرب عنقه وقال: لا أُمثِّل به”([42]).
ويردُ على هذا الخبر والأخبار المشابهة أنَّها أخبارٌ مرسَلة، والمسند منها معضلٌ ومنقطع، هذا مضافًا إلى جهالة بعض رواتها، فهي فاقدة لشرائط الاعتبار، لذلك فهي لا تصلحُ لمعارضة الأخبار المتواترة والتي نصَّت على نهي أمير المؤمنين (ع) عن التمثيل بالرجل، ولو صحَّ ما ذكرته هذه الأخبار الشاذَّة لشاع وذاع تناقلها في الأوساط وبين المحدِّثين وذلك لشناعتها أولًا ولأنَّها وقعت على مرأًى ومسمعٍ من الناس -كما هو الواضح من مساق الخبر- فكان المناسب أنْ يتناقلها الرواة والمحدِّثون لا أن يقتصر نقلها على مجاهيل خصوصًا وأنَّ نقل مثل مضامين هذا الخبر مناسبٌ لهوى الكثير من المحدِّثين والرواة، فتنزُّه المحدِّثين والرواة عن نقل مثل هذا الخبر رغم تناسبه مع هوى الكثير منهم وصلاحيته للنكاية بخصومهم من أهل البيت (ع) وأتباعهم كافٍ للدلالة على إدراكهم عدم قابليته للتصديق، لذلك تحاشوا عن نقله حرصًا على مصداقيتهم، وأمَّا نقل المؤرِّخين له فيعتذرون عنه بأنَّهم إنَّما ينقلون خبرًا أوردَه بعضُ الناس دون أن يحكموا عليه بالنفي أو الإثبات وبذلك ينفون عن أنفسهم تهمة التداول للأخبار الموهونة وفي ذات الوقت يُشبعون رغبتهم الملحَّة في التنقُّص من أهل البيت (ع) والتشويش على مناقبهم ونصوع معدنهم ومكارم أخلاقهم.
إنَّ الخبر المذكور شنيعٌ ومنكر ويكشفُ عن وقاحة مدَّعيه وخبث سريرته ونُصْبِه ونفاقه، إذ كيف يصحُّ القبول على الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنَّة أنَّ يُضيِّع وصية أبيه (ع) المشدَّدة والمغلَّظة فور استشهاده؟!! وكيف يصحُّ القبول على سبط رسول الله (ص) أنْ يتجاور نهيَ الرسول (ص) عن المُثلة ولو بالكلب العقور، ثم إنَّ ممَّا يؤكِّد على نُصب ونفاق مدَّعي الخبر حرصه على إظهار ابن ملجم في مظهر العابد الناسك الذي لا يفترُ عن تلاوة القرآن والذكر لله تعالى حتى أنَّه لم يجزع إلا حين إرادة قَطع لسانه، فمدَّعي الخبر حرصَ على أنْ يُظهِر ابن ملجم في صورة الرجل القويِّ القلب الثابت الجنان، فلم يتأوه رغم تقطيع أطرافه وسمْلِ عينية بالحديد المحميِّ على النار، فكان لا يفتأُ يتلو كتابَ الله ويلهجُ بذكر الله وقد تجاهل هذا الكذَّاب عمَّا استفاض نقله من الفريقين أنَّ الرسول (ص) قد وصف هذا المخذول بأنَّه أشقى الآخرين على الإطلاق([43]) وأنَّه شقيقُ الكافر الجاحد عاقر ناقة صالح الذي وصفه الرسول (ص) بأنَّه أشقى الأولين ووصفه القرآن بقوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا / إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا / فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا / فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا / وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾([44]).
وتجاهل هذا الكذَّاب ما أوردته أخبارهم من أنَّ ما زاد من عزيمة ابن ملجم على الفتك بأمير المؤمنين (ع) هو الطمع في الاقتران بامرأةٍ فاسقة أخذ جمالُها الذي تصفَّحه بشغاف قلبه.
استحقاق ابن ملجم لحدِّ الحرابة وجوابه:
قد يُقال إنَّ ابن ملجم أخزاه الله تعالى يستحقُّ حدَّ الحرابة، وذلك لأنَّه شهر السلاح في وجوه الآمنين في غير حرب، فيكون مشمولًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([45]).
والجواب: هذا صحيح، فهو مستحقٌّ دون ريب لحدِّ الحرابة إلا أنَّ حدَّ الحرابة كما أفادته الآية -على تفصيلٍ مذكورٍ في كتب الفقه- هو أنْ تقطع يدُه ورجله من خلاف أو يُصلب مضافًا إلى القتل إذا كان قد اجترح جريمة القتل إلا أنَّه ليس من حدِّ الحرابة سملُ العيون وقطعُ اللسان كما أنَّه ليس منها قطعُ اليدين والرجلين معًا والحرقُ بالنار، والحال أنَّ مفتري الخبر المذكور قد ادَّعى أنَّ ابن ملجم قد تمَّ التقطيع ليديه ورجليه معًا والسملُ بمسمارٍ محميِّ بالنار لعينيه والشقُّ لشدقِه وإخراجُ لسانه وقطعه ثم حرقُه بالنار وهو حيٌّ كما في بعض هذه النقولات المفتراة، وكلُّ ذلك لا يقتضيه حدُّ الحرابة وليس من حدٍّ من حدود الإسلام يقتضي ذلك.
على أنَّه وإنْ كان مستحقًا لحدِّ الحرابة إلا أنَّ الإمام أمير المؤمنين (ع) لنبلِه وكرم أخلاقه أوصى مغلَّظًا بأنْ لا يُتجاوز فيه حدُّ القصاص، فلا يُزاد على ضربِ عنقِه بالسيف كما يُفعل بالقاتل المتعمِّد، ويستحيلُ على أهل البيت (ع) أن يضيعوا وصية أمير المؤمنين (ع) وأن يتجاوزوها قيد أنملة، ثم إنَّ إقامة حدِّ الحرابة إنَّما يكون بعهدة وليِّ الأمر وهو الإمام الحسن (ع) والخبرُ المزعوم يدَّعي أنَّ وليَّ الأمر كان قد نهى عن التمثيل بابن ملجم.
دعوى أنَّ الإمام (ع) أوصى بإحراقه:
هذا وقد أورد احمد بن حنبل رواية في مسنده قال: حدَّثنا عبد الله حدَّثني أبي، حدثنا أبو أحمد حدَّثنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي تحيى قال: لما ضربَ ابنُ ملجم عليًّا الضربة، قال عليٌّ: افعلوا به كما أراد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أن يفعل برجلٍ أراد قتله فقال: اقتلوه ثم حرقوه”([46]).
وأورد ذات الرواية مرسلةً الشيخُ المفيد في الإرشاد([47]) وأوردها مرسلة أيضًا ابن شهراشوب في المناقب([48]).
هذا الخبر الآحاد مضافًا إلى ضعف سنده بحسب الموازين المعتمدة عندنا بل والمعتمدة عند العامة لاشتماله على مثل عمران بن ظبيان فإنَّه مضافًا إلى ذلك فإنَّه معارضٌ بما تواتر عن أمير المؤمنين (ع) بأن لا يُتجاوز مع ابن ملجم حدَّ القصاص فلا يُزاد على ذلك كما أوصى (ع) ومن المقطوع به أنَّ أهل البيت (ع) لا يتخطَّون وصيَّة الإمام (ع) قيد أنملة، فالخبر المذكور سيقَ لغرض الإساءة إلى أمير المؤمنين (ع) فقد أزعجهم ما ظهرَ من تسامح الإمام (ع) وعظيم حلمِه.
التعليق على ما قيل من إحراق جيفة ابن ملجم:
نعم ورد في بعض الأخبار أنَّ الإمام الحسن (ع) بعد أنْ أقام على ابن ملجم حدَّ القصاص فضرب عنه بالسيف دون أن يزيد على ذلك استوهبت جيفة ابن ملجم امرأة فأحرقتها قال الشيخ المفيد في الإرشاد: “لمّا قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) وفرغ أهلُه من دفنه جلس الحسن (عليه السلام) وأمر أنْ يؤتى بابن ملجم، فجيءَ به، فلمّا وقف بين يديه قال له: يا عدوّ الله!! قتلت أمير المؤمنين، وأعظمت الفساد في الدين. ثمّ أمر به فضُربت عنقه، واستوهبت أُمّ الهيثم بنت الأسود النخعيّة جيفتَه منه لتتولّى إحراقها، فوهبها لها، فأحرقتها بالنار”([49]). وأورد ذلك أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين([50]).
وأورد الطبراني في المعجم الكبير من خبر إسماعيل بن راشد قال: “.. فلما قبض علي رضي الله تعالى عنه بعث الحسن رضي الله تعالى عنه إلى بن ملجم فأدخل عليه فقال له بن ملجم هل لك في خصلة إني والله ما أعطيت الله عهدا إلا وفيت به إني كنت أعطيت الله عهدا أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما فإن شئت خليت بيني وبينه ولك الله علي إن لم أقتل أن آتيك حتى أضعَ يدي في يدك فقال له الحسن: رضي الله تعالى عنه لا والله أو تُعاين النار فقدمه فقتله ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار”([51]).
وهذا الخبر والذي قبله وإن لم يكونا صحيحين بحسب الموازين المعتمدة عندنا وكذلك عند العامَّة إلا أنَّه لو افترضنا ثبوته واقعًا فإنَّه ليس من فعل الإمام (ع) وهو عليه السلام غير مكلَّفٍ بدفن ابن ملجم بعد إقامة حدِّ القصاص عليه، ولا هو مكلَّفٌ بالذبِّ عن جيفته، فإنَّ ابن ملجم بحكم الكافر بل هو أسوأ حالًا من الكافر فهو أشقى الآخرين كما أفاد الرسول (ص) في المستفيضِ عنه، والكافرُ لا يجبُ على المسلمين دفنُه أو الذبُّ عن جيفته، فلا يجب المنع من إحراقه أو منع السباع والقوارض من تناول لحمه وعظامه، وقد ثبت أنَّ الرسول (ص) لم يكن يدفن جيفَ الكفار بل ثبت أنَّه أمرَ بأن تُلقى جثث كفَّار قريش يوم بدر في القليب وأنْ تُردم بالأحجار، وكذلك لم يكن الأنبياء يتولَّون دفن من وقع عليهم العذاب بل ينصرفون عنهم ويتركونهم وشأنَهم كما قال تعالى عن قوم صالح: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ / فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾([52]).
وقال تعالى عن قوم عاد: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾([53]) فصارت جثامينهم جيفًا ملاقاة كأنَّها أعجاز نخل خاوية تتناوشها الذؤبان والضباع وجوارح الطيور، وكذلك هو ما أصاب قوم لوط وشعيب وأصحاب الفيل حيثُ صارت جيفُهم كعصف مأكول.
فما وقع لابن ملجم من تناول الناس لجثته وإحراقها -لو صحَّ- فهو من فعل الناس كما نصَّ على ذلك الخبر، وليس من فعل الإمام (ع) ونشأ ذلك عن شدَّة حنَقهم وغضبهم الذي لم يجب على الإمام (ع) تسكينُه بعد إقامة الحدِّ عليه، وممَّا يؤشِّر إلى شدَّة غضب الناس على ابن ملجم ما رواه أبو مخنف -كما في مقاتل الطالبيين- قال: فحدَّثني بعض أصحابنا، عن صالح بن ميثم، عن أخيه عمران قال: “لقد رأيتُ الناس حين انصرفوا من صلاة الصبح أتوا بابن ملجم لعنه الله ينهشون لحمَه بأسنانهم كأنَّهم سباع، وهم يقولون له: يا عدوَّ الله، ماذا فعلت؟ أهلكتَ أمة محمد صلَّى الله عليه وآله، وقتلتَ خير الناس. وإنَّه لصامتٌ ما ينطق”([54]).
فكان على الإمام الحسن (ع) أنْ يتحفَّظ على ابن ملجم ما دام أمير المؤمنين (ع) علي قيد الحياة وأنْ يحسِنَ معاملته لكونه أسيرًا ولوصيَّة أمير المؤمنين (ع) وأمَّا بعد إقامة الحدِّ عليه فلا شأنَ له به فانساق الناس -لو صحَّ الخبر- مع مقتضيات غضبهم وحنقهم عليه فجعلوه في بواري وأحرقوا جيفته تمامًا كما تُحرق جيف الحيوانات النافقة، وهذا وإنْ لم يكن يفعله أهلُ البيت (ع) ولا هو من شيمِهم ومكارم أخلاقهم إلا أنَّ ذلك لا يمتنع صدورُه من الناس الذين بلغ بهم الغضب والحنَق حدَّ الهياج.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
24 / شهر رمضان المبارك / 1442هـ
7 / مايو / 2021م
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.