الآية المباركة واقعةٌ في سياق حكاية ما وقع لإبراهيم (ع) مع الملائكة الذين حلَّوا ضيوفاً عليه وقد جاؤوا لتبشيره بأنَّ الله تعالى قد قضى بمنحِه ولداً اسمه إسحاق من السيدة سارة وأنَّه سيكون نبيَّاً وسوف يكون من ولده نبيٌّ هو يعقوب، وجاؤوا كذلك لاطلاعه على ما قضاهُ الله تعالى من إهلاك قوم لوط (ع).
فالآية تتحدَّث عن أنَّ الملائكة حين بشَّرت إبراهيم (ع) بإسحاق(ع) كان ذلك في محضر السيِّدة سارة فعبَّرت عن تعجُّبها بأنْ صاحت وصكَّت وجهها وقالت كيف يتمُّ ذلك وأنا عجوز عقيم وبعلي شيخ كبير.
معنى قوله تعالى: ﴿فِي صَرَّةٍ﴾:
فمعنى قوله: ﴿فِي صَرَّةٍ﴾ هو أنَّها أقبلت في صيحة وجلَبة، فالصرَّة تعني فيما تعني الصياح أو شدَّة الصياح والضجيج واللَّغَط والجلَبة، “قال الليث: صرَّ الجندب يصرّ صريراً، وصرّ الباب يصرُّ، وكلّ صوت شبه ذلك فهو صرير إذا امتدّ، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادةٍ ضوعف، كقولك صرصر الأخطب، والصقر يُصرصرُ صرصرة -وقال- الحراني عن ابن السكيت: صرَّ المحملُ يصرُّ صريرا”(2).
فهي حين سمعت البشارة هالها ذلك فصدر عنها تلقائياً صوتاً وصيحة تعبيراً عن دهشتها تماماً كما يحدثُ ذلك عند السماع لخبرٍ ذي بالٍ مفاجئٍ وغير منتظَر.
فالجار والمجرور أعني قوله: ﴿فِي صَرَّةٍ﴾ متعلِّق بمحذوف حال أي فأقبلت امرأتُه صارَّةً مصوِّتة.
معنى قوله تعالى: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾:
وأما معنى قوله تعالى: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ فهو أنَّها غطته بيدها كما في تفسير القمي(3) وقيل هو بمعنى لطمت وجهها حياءً أو تعجُّباً وقيل: فَضَرَبَتْ بأَطْرافِ أَصَابِعِها تماما كما يفعل المتعجِّب (4) وقيل ضربت بكفها جبهتها كما يفعل المتعجِّب، وأصل الصك الضرب من صَكَّه يَصُكُّه صَكَّاً، وصككت الباب إذا أطبقتُه، وتصطك ركبتاه أي تضرب إحداهما الأخرى من الخوف والصَّكَكُ: اضطراب الرُّكبتين، واصطكوا بالسيوف أي تضاربوا بها.
فالأرجح -بمقتضى المدلول اللُّغوي -أنَّ معنى قوله تعالى: ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ هو أنَّها لطمت بكفِّها خدَّها أو جبهتها تعبيراً عن استغرابها وتعجُّبها.
معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾:
وأما معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ فهو بيانٌ لمنشأ التعجُّب وهو أنَّه كيف تلدُ والحال أنَّه قد تقدَّم بها السنُّ وهي في ذات الوقت عقيم لا تُنجب، لذلك جاء الجواب من قبل الملائكة: ﴿قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾(5) ومفاده أنَّ ذلك هو ما قضاه الله تعالى والذي ﴿ذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(6).
والذي يؤكدُ أنَّ قولها: ﴿عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ كان للتعبير عن منشأ التعجُّب هو ما ورد في سورة هود: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ / قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾(7).
فتعجُّبها لم ينشأ عن تنكُّرِها لقدرة الله تعالى وإنَّما هو شعورٌ تلقائيٌّ يصدرُ حين يُفاجئ الإنسان بوقوع ما ليس محتَسَباً ومألوفاً تماماً كما وقع لزكريا (ع) حين بُشِّر بيحيى (ع): ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾(8) فمثلُ هذا التعجُّب التلقائي يكفي لرفعه التذكير بقدرة الله تعالى على كلِّ شيء.
الشيخ محمد صنقور
—————————————
1- سورة الذاريات / 29.
2- تهذيب اللغة -محمد بن محمد بن الأزهري- ج12 / ص75.
3- تفسير القمي -علي بن إبراهيم- ج2 / ص330.
4- جوامع الجامع ج3 / ص432، جامع البيان -الطبري- ج 6 / ص271.
5- سورة الذاريات / 30.
6- سورة آل عمران / 47.
7- سورة هود / 72-73.
8- سورة آل عمران / 40.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.