شاء الله سبحانه وتعالى أن يستأثر برسوله الاعظم “صلى الله عليه وآله” وينقله الى جواره في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ على وفق اوثق الروايات التي وصلت الينا، وتولى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب “عليه السلام” غُسله وتجهيزه، كما اجتمعت على ذلك أغلب مصادر المسلمين وأرباب التاريخ.
يقول أمير المؤمنين “عليه السلام” مستذكراً ساعة رحيل النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” :” ولقد قبض رسول الله، وان رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي”([1])، يظهر من قول أمير المؤمنين انه كان آخر الناس عهداً بالنبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” في الحياة الدنيا، اذ وضعه في حجره، ورأسه “صلى الله عليه وآله” على صدره، ما من شك ان النبي أخبر الامام “عليه السلام” بقرب رحيله ودنو أجله، واراد ان يكون قريباً منه على هذا النحو من القرب المكاني، للتأكيد من خلاله على حقيقة القرب الروحي بينهما، فضلا عن القرب الايماني والاجتماعي والاسري . مما يؤكد هذه الحقيقة سلمان الفارسي قال: دخلت عليه -أي على النبي- صبيحة قبل اليوم الذي مات فيه، فقال لي: يا سلمان، ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر، أنا وعلي؟! فقلت: يا رسول الله، أما أسهر ليلة معك بدله؟! فقال: لا، هو أحق بذلك منك”([2]).
مسح الامام علي “عليه السلام” وجهه بروح النبي الاعظم” صلى اله عليه وآله” بعد ان سالت على كفه، تيمناً وتبركاً وتشرفاً وتوحداً مع هذه النفس المقدسة التي وحدها الله تعالى مع نفسه بنص آية المباهلة في قوله تعالى ﴿ … فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾([3] )، اذ توحد الامام مع النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” بعد ان تشربت نفسه من هذه النفوس المقدسة مده خمس وثلاثين سنة امضاها مع النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” اذ يؤكد الامير علي “عليه السلام” تلك الصلة بقوله:” وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ”([4]) وفق هذه الرواية يكون قرب أمير المؤمنين “عليه السلام” من النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” قرباً ربانياً اشاء الله تعالى ان يختم به حياة النبي في الدنيا كما بدأها به([5]) .
ومن دلالة اخرى في النص تؤكد على ان أمير المؤمنين “عليه السلام” كان وظل أقرب الناس الى النبي الاعظم حتى لحظة رحيله عن الدنيا، والامام بهذا الوصف، اذ استعمل اسلوب التوكيد بوجوهه المختلفة هي:” ولقد… وان… لعلى… ولقد” فكانت هذه المظاهر الاسلوبية ثوابت لا تحتمل التغير المحتمل في الكلمات لأنها استمدت ثباتها الحقيقي من حقيقة ما فعله أمير المؤمنين “عليه السلام” في غسل النبي الاكرم وتجهيزه ودفنه فيما بعد في قوله هذا([6]).
غسل النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله”
يقول أمير المؤمنين علي “عليه السلام”:” وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ -أي النبي- وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ وَمَلَأٌ يَعْرُجُ وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ“ هنا اراد أمير المؤمنين علي “عليه السلام” ان يبين مساله مهمه الا وهي من له الحق في غسل النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” ،اذ جاء في الروايات ان جبرائيل “عليه السلام” قال:” يا محمد، قل لعلي: إن ربك يأمرك أن تغسل ابن عمك، فإن هذه السُنَّة، لا يُغَسِّلُ الأنبياء غير الأوصياء، وإنما يغسل كل نبي وصيه من بعده”([7]) نستنتج من ذلك ان الله امر وصي رسول الله علي ابن ابي طالب، ان يتكفل بغُسل النبي الاعظم “صلى الله عليه وآله”، مما يؤكد صلته بالنبي محمد فهو قريب من النبي ودان منه، وصديق ونصير وتابع ومحب والخليفة والوصي، فقد غسله وقميصه عليه، وقد روى ابن سعد في كتابه :” بينما هم يغسلون النبي اذ نودوا لا تجردوا رسول الله “([8])، ثم يشير أمير المؤمنين “عليه السلام” الى معونة الملائكة في غُسل النبي الاكرم بقوله ” وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي”. اذن كيف كانت معونة الملائكة للإمام علي ابن ابي طالب؟.
اغلب الروايات تؤكد ان العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس وأسامة ابن زيد حضروا مع أمير المؤمنين علي “عليه السلام” غُسل النبي الاكرم وكان الامام علي يغُسله والفضل وأسامة يحجبانه والعباس قاعد عند السترة ([9])، ولم يعترض أمير المؤمنين معونتهم، لان الملائكة تكفلوا بتغسيل الجسد الطاهر بإجماع المسلمين، وقد احس أمير المؤمنين “عليه السلام” بهذه المعونة في تغسيله من خلال سهولة ذلك ويسره عليه اذ يقول عليه السلام”، ” فما تناولت عضواً الا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله”([10]) .
وثم يأتي قول أمير المؤمنين “عليه السلام”: قائلا” فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ وَمَلَأٌ يَعْرُجُ وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ” هنا اراد أمير المؤمنين علي “عليه السلام” بيان اشتراك الملائكة مع المسلمين في تأبين الرسول الاعظم اذ ضجت الدار وافنيتها بهم، حيث ان هذه الافواج من الملائكة كانت تصيح مستغيثة من شدة المشقة بفقد النبي الاكرم “صلى الله عليه وآله” على وفق معاني الضجيج في اللغة، وكان أمير المؤمنين يسمع هذا الضجيج ولم تغب عن سمعه. فقد جاء مثل هذا في قوله عن رسول الله “… انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى الا انك لست بنبي، ولكنك وزير وانك لعلى خير”([11]). ويختم امير المؤمنين قوله عن تجهيز رسول الله ودفنه بقوله” اني كنت آخر الناس عهدا برسول الله ودليته في حفرته”([12])، فحفر له لحداً، ودخل أمير المؤمنين ليتولى دفن رسول الله “صلّى الله عليه وآله” فنزل القبر ووضع أمير المؤمنين رسول الله “صلّى الله عليه وآله” على يديه ، فكشف عن وجه رسول الله “صلّى الله عليه وآله” ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب ([13]).
جعفر رمضان
([1]) لابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، (منشورات مكتبة ابة الله العظمى المرعشي النجفي، دار احياء الكتب العربية)، ص172.
([2] ) علي النمازي الشاهرودي، مستدرك سفينة ابحار، تحقيق حسن بن علي النمازي،( قم المقدسة: مؤسسة النشر الاسلامي)، ج7، ص 381.
([3]) سورة ال عمران: الآية 61.
([4] ) لابن ابي الحديد، المصدر السابق، ص 474.
([5] ) حاكم حبيب الكريطي، اقوال الامام علي في غسل النبي ودفنه قراءة تأويلية، مجلة جامعة الكوفة، ص 544-550.
([6] ) المصدر نفسه.
([7] ) حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة ،( قم: المطبعة العلمية،1399هـ)،ج3، ص154.
([8] ) ابن سعد ، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا،( بيروت: دار الكتب العلمية، 1410)، ج2، ص276.
([9]) محمد بن جرير الطبري، المسترشد في امامة امير المؤمنين، تحقيق احمد الحمودي،( قم: مطبعة سلمان الفارسي) ، ص337.
([10] ) محمد بن جرير الطبري، المصدر السابق، ص 337.
([11] ) لابن ابي الحديد، المصدر السابق، ص 157.
(([12] أبو جعفر محمد بن علي ابن بأبويه القمي الصدوق ، الخصال، تحقيق علي أكبر غفاري،( قم المقدسة: مؤسسة النشر الاسلامي)، ص 572.
(([13] علي بن الحسين الهاشمي، المطالب المهمة في تاريخ النبي والزهراء والائمة،( النجف الاشرف: منشورات المكتبة الحيدرية،1388هـ)، ص11-12.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.