الى ذلك ، تؤكد بعض الدراسات ” أن الأطفال الذين حظوا بوجود دور فعال للأب في طفولتهم ، تكون لديهم مشكلات سلوكية أقل من أقرانهم ممن لم يحظوا بذلك ، وليس بالضرورة أن يعيش الأب في نفس البيت مع الأطفال ، لكن وجود الأب في حياة أبنائه عامل مهم جدا، فالأبناء الذين يجدون آبائهم حولهم ، يتميزون اجتماعيا ودراسيا عمن يفتقدون ذلك .
وقد عرض القرآن الكريم صور جميلة عن دور الأب ، خصوصا في معرض حديثه عن انبياء الله داود وسليمان عليهما السلام ، ولقمان وابنه ، وزكريا ويحيى عليهما السلام ، وكذلك أبوة زكريا وكفالته لمريم عليهما السلام ، الا أن المصداق الأكبر في ذلك والذي خصصت له سورة كاملة سلطت الضوء على مسالة التربية للأبناء هو مصداق قصة النبي يعقوب مع أولاده في سورة يوسف ، وهو ما سيثري بحثنا المتواضع هذا بملاحظات تربوية مهمة وجوهرية …
(( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ () قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ () وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ () لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ()إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ )) ( يوسف 4ـ 8 )
لا نحتاج في هذا المختصر إلى بيان أو تفسير للآيات ، فهي واضحة الكلمات والمعاني ، ولمن يريد التوسع فلينظر كتب التفاسير فيها ، وما يهمنا في هذا المحور بيان النقاط التربوية التي جسدها الوالد مع أبنائه وكما يلي :
ـ نلاحظ من بداية السورة ، قرب الأب من ولده الصغير بحيث يصل لدرجة قص الرؤيا على والده وهذا يدل على قوة العلاقة الاتصالية بين الصغير ووالده ، ثم نرى معرفة الأب لحسد إخوته الكبار ، لذا ينصح ابنه الصغير يوسف بعدم قص الرؤيا على إخوته الكبار .
ـ ثم نرى تعريف الأب لولده فضل الله عليه وانه ربه الذي يفتح له كل فضل : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليمٌ حكيم)) ( يوسف ـ 6 ) .
ـ ومن هنا نرى كلما كان الأب قريبًا من ابنه ، حصلت بينهما علاقة قوية ، تمكن الأب من معرفة طبيعة ابنه ومواهبه ، وبالتالي تمكنه من رسم مستقبله بما يتوافق مع طبيعته ، وتمسك يوسف عليه السلام بنصيحة والده ومعرفة أن كل نعمة تنسب لله لأنه الرب الحقيقي لذا نراه في مكان اخر عندما يكبر يقول (( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ )) ( يوسف ـ 23 ) .
ـ من الأمور التربوية التي يجب الانتباه اليها ، هي الحسد الذي قد يوقع الشخص في الكبائر كما حصل مع أخوة يوسف عليه السلام .
ـ (( قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون () أرسله معنا غدًا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ))(يوسف ـ 11ـ12) ومن هنا نرى أهمية لعب الصغير ، فهو المجال الذي يبني فيه جسمه ، ويمتع به روحه ، ويغذي به نفسه .
ـ ثم نرى جواب الأب المناسب للعرض ونلاحظ الحوار الأسري يستمر في عرض الأحداث ، وتصويرها ، والحجج القوية من كل طرف ومراعاة الأب أولاده اذ لم يوجه لهم تهمة قبل وقوعها بل نسبها للذئب : (( قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئبُ وأنتم عنه غافلون () قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبةٌ إنا إذًا لخاسرون )) (يوسف ـ 13 ـ 14) .
ـ ونستفيد كذلك من ضرورة خلق اجواء للحوار بين الآباء والأبناء ، إذ هو السبيل لتنمية مهارات الأبناء ، كما ينشط الآباء في التفكير في مشاكل الأبناء وحلها ، وأن يدربهم على إقامة الدليل والبرهان ، وأن يتجاوب معهم لنتائج الحوار .
ـ يعلمنا القرآن الكريم كيفية مواجهة الأحداث الأسرية والعامة برفع شعار : (( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) ( يوسف ـ 83 ) ، وضرورة ابتعاد الآباء عن إظهار عصبية فارغة ، فيكشف القرآن منهجاً جديدًا ، ألا وهو تفويض كشف الحقيقة لله تعالى ، والصبر الجميل بلا ضجر ولا ملل ، أو إظهار الاستياء من قدر الله تعالى ، لذا يأتي شعار (( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) ، ذكرًا يردده المؤمن ، صغيرًا وكبيرًا ، في حياته اليومية وفي كل آن ، كلما عرض له عارض أو طارئ .
ختاما ، فأن لمحتوى سورة يوسف عليه السلام الكثير من العبر والدروس التربوية التي جسدها النبي يعقوب عليه السلام ليضرب لنا مثلا في حسن تدبير الأبوة والبنوة .
مواهب الخطيب
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.