قضيَّة التحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
قضيَّة التحكيم التي انتهت بها حربُ صفين من القضايا المفصليَّة في تاريخ الإسلام، فكان لها بالغ الأثر في مجريات الأحداث، فعندها توقفت الحرب التي أوشك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أن يحسمها بالنصر المؤزَّر، ولم يتهيأ له بعدها العودة إلى الحرب إلى أنْ استُشهد، فكان من أثرِ ذلك تسلُّط الأمويين على رقاب المسلمين عقوداً وأحقاباً عملوا فيها جاهدين على طمس معالم الإسلام وإفراغه من محتواه.
ولستُ في المقام بصدد الحديث حول الآثار الخطيرة التي تمخَّضت عن قضية التحكيم بل بصدد التعريف إجمالاً بهذه القضية وخلفياتها والظروف التي اكتنفتها والاجابة عن بعض التساؤلات المتَّصلة بها .
الخلفيَّات القريبة لحادثة التحكيم:
فنبدأ أولاً ببيان الخلفيات القريبة التي وقعت بعدها قضيَّة التحكيم، فبعد مقتل عثمان بايع المهاجرون والأنصار في مدينة الرسول (ص) عليَّاً (ع) بالخلافة بعد تمنُّعه من القبول وإصرارهم على القبول، وبعد قبوله (ع) بالبيعة بايعه المسلمون في الحجاز والعراق واليمن ومصر وفارس وسائر الحواضر الإسلاميَّة، ولم يبقَ من أحدٍ إلا وبايعه على الخلافة سوى معاوية الذي كان والياً مِن قبل عثمان على الشام، فقد رفض البيعة وتسليم الشام إلى سلطان الخلافة بذريعة المطالبة بدم عثمان، فكان عليه أنْ يدخل فيما دخل فيه المسلمون وأن يبايع ويسلِّم الشام لسلطان الخلافة، وذلك لشرعيَّة البيعة التي وقعت لعليٍّ (ع) بحسب ما يتبنَّاه هو ويتناه عامَّة المسلمين من أنَّه إذا بايع المهاجرون والأنصار أحداً بالخلافة فبيعتُه لازمة شرعاً على عامَّة المسلمين، وهو إنَّما كان والياً على الشام بناءً على ذلك، لكنَّه رفض أن يُبايع وأنْ يسلِّم الشام للخلافة الشرعيَّة التي يقرُّ عامَّةُ المسلمين بشرعيتها، فبذل أميرُ المؤمنين (ع) وسعَه في سبيل ثني معاوية عن ذلك، فبعث إليه الوفود بعد الوفود يَعظونه ويطالبونه بتسليم الشام واعتزال الولاية عليها وأنْ لا يسعى في شقِّ عصى المسلمين لكنَّه كان يأبى ذلك، ولم يكتف برفض البيعة واعتزال الولاية على الشام بل راح يُحرِّض على الفتنة والانشقاق ويُعبِّأ جيش الشام للانقضاض على الخلافة الشرعيَّة بذريعة المطالبة بدم عثمان، فلم يكن يسعه الطعن في شرعيَّة الخلافة فاتَّخذ من دم عثمان ذريعةً للانفصال عن الخلافة الشرعيَّة وإعلان الحرب عليها، فكان ذلك هو منشأ نشوب حرب صفين والتي بذل أميرُ المؤمنين (ع) وسعه في أنْ لا تقع إلا أنَّ معاوية ومَن معه من الطلقاء أبوا إلا الانشقاق، فلم يسع أمير المؤمنين (ع) إلا امتثال أمر الله تعالى الذي فرض على المؤمنين المحاربة للفئة الباغية بعد تعذُّر الإصلاح كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1)
فوقعت حرب صفين سنة سبع وثلاثين للهجرة والتي امتدت قرابة الستة شهور فكانت الحرب بين الجيشين سجال إلى أن ظهر الضعف والوهن على جيش معاوية وأوشكت الحرب أن تُحسم بالنصر المؤزر لصالح أمير المؤمنين (ع) فحينذاك احتال معاوية لإيقاف الحرب بمشورة من عمرو بن العاص فأمر جيشه برفع المصاحف والنداء بين الصفين بتحكيم كتاب الله تعالى فرفع جيش الشام قرابة الخمسمائة مصحفاً على رؤوس الرماح ونادي مناديهم أنَّهم يقبلون بتحكيم كتاب الله تعالى.
وكان معاوية يبتغي من وراء ذلك إيقاف الحرب ولو لأمدٍ، ليتسنَّى له استجماع قوَّته بعد أن أيقن بالهزيمة لو بقيت الحرب قائمة، وكذلك يبتغي من وراء رقع المصاحف والدعوة إلى التحكيم إحداث الانشقاق والفتنة في صفوف جيش أمير المؤمنين (ع) فلم يكن يقصد من رفع المصاحف الرجوع إلى كتاب الله تعالى وتحكيمه، وقد كان أمير المؤمنين (ع) يدعوه إلى كتاب الله تعالى قبل وأثناء الحرب.
ولتوثيق ما ذكرناه من أنَّ المعركة كادت أن تحسم لصالح أمير المؤمنين(ع) وأن رفع المصاحف كانت مكيدة يراد منها إيقاف الحرب خشية الهزيمة وسعياً لإحداث الفتنة والشقاق في صفوف جيش أمير المؤمنين (ع) لتوثيق ذلك ننقل بعض النصوص التأريخيَّة:
النص الأول: وقعة صفّين عن عمّار بن ربيعة: إنّ عليّاً قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: “أيّها الناس! قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم، ولم يبقَ منهم إلاّ آخر نفَس، وإنّ الأُمور إذا أقبلت اعتُبر آخرها بأوّلها، وقد صبرَ لكم القوم على غير دينٍ حتى بلغنا منهم ما بلغنا، وأنا غادٍ عليهم بالغداة أُحاكمهم إلى الله عزّ وجلّ”.
فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو ! إنَّما هي الليلة حتى يغدو عليٌّ علينا بالفيصل، فما ترى؟ قال: إنّ رجالك لا يقومون لرجاله، ولستَ مثله، هو يقاتلُك على أمر، وأنت تقاتلُه على غيره . أنت تريدُ البقاء وهو يريد الفناء، وأهلُ العراق يخافون منك إنْ ظفرتَ بهم، وأهل الشام لا يخافون عليّاً إنْ ظفِرَ بهم. ولكن ألقِ إليهم أمراً إنْ قبلوه اختلفوا، وإنْ ردّوه اختلفوا؛ ادعُهم إلى كتاب الله حَكَماً فيما بينك وبينهم؛ فإنّك بالغٌ به حاجتك في القوم؛ فإنّي لم أزَل أُؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فعرف ذلك معاوية، فقال: صدقت”(2)
أقول: هذا النصُّ يكشف أنَّ حسم الحرب لصالح الإمام عليٍّ (ع) بات وشيكاً حيث عبَّر الإمام (ع) في خطبته عن ذلك بقوله: “ولم يبقَ منهم إلاّ آخر نفَس” وكان معاوية وعمرو بن العاص يُدركان ذلك كما يشير إليه قول معاوية – بحسب النص-: “يا عمرو ! إنّما هي الليلة حتى يغدو عليٌّ علينا بالفيصل، فما ترى؟ “
ثم تصدَّى عمرو بن العاص بعد التأكيد على أنَّ أسباب الهزيمة قائمة تصدَّى لعرض مكيدته وهي رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم لكتاب الله تعالى، وذكر أنَّها ستُؤتي ثمارها على أيِّ تقدير، فإما أن يقبلوا بالتحكيم، وإما أنْ لا يقبلوا، وفي كلا الفرضين سيدبُّ الخلاف فيما بينهم المُفضي لضعفهم وهو ما سيفوِّت عليهم الحسم للمعركة إنْ بقيت قائمة أو سينتج إيقافها.
النص الثاني: تاريخ الطبري عن أبي مخنف: لمّا رأى عمرو بن العاص أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ، وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمرٍ أعرضُه عليك لا يزيدُنا إلاّ اجتماعاً، ولا يزيدُهم إلاّ فرقة ؟ قال: نعم .
قال: نرفعُ المصاحف ثمّ نقول: ما فيها حَكَمٌ بيننا وبينكم، فإنْ أبى بعضُهم أنْ يقبلها وجدتَ فيهم مَن يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقةٌ تقعُ بينهم، وإنْ قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنّا وهذه الحرب إلى أجَلٍ أو إلى حين. فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتابُ الله عزّوجلّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغورِ أهل الشام بعد أهل الشام ؟ ومَن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق! فلمّا رأى الناس المصاحف قد رُفعت، قالوا: نُجيب إلى كتاب الله عزّوجلّ ونُنيبُ إليه”(3)
أقول: وهذا النصُّ يوضِّح أيضاً أنَّ حسم المعركة لأمير المؤمنين (ع) بات وشيكاً، وهذا هو مفاد فقرة:” لمّا رأى عمرو بن العاص أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ، وخاف في ذلك الهلاك”
ويوضِّح أيضاً أنَّ الغاية من رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم ليس هو الرجوع إلى كتاب الله تعالى والائتمار بأمره ونهيه بل هي المكيدة والاحتيال لإيقاف الحرب التي أيقنوا أنَّ دائرتها عليهم، وإن لم تفلح هذه المكيدة في إيقاف الحرب ولو إلى حين فإنَّها ستُوهن من جيش أمير المؤمنين(ع) لأنَّها ستُحدث الاختلاف والشقاق بين صفوفه وهو ما سيُفوِّت عليه القدرة على حسم المعركة، وقد أفصح عمرو بن العاص عن غايته بقوله: “نرفع المصاحف ثمّ نقول: ما فيها حَكَمٌ بيننا وبينكم، فإنْ أبى بعضُهم أنْ يقبلها وجدتَ فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقةٌ تقعُ بينهم، وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنّا وهذه الحرب إلى أجَل أو إلى حين”. فالغاية هي إحداث الشقاق أو إيقاف الحرب إلى أجل وقد يترتب عن ذلك وقوع الغايتين.
النصُّ الثالث: تاريخ اليعقوبي: ونادى الناس : قتل صاحب رسول الله ، وقد قال رسول الله : تقتل عمارا الفئة الباغية، زحف أصحاب عليٍّ وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه.
فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبقَ إلاّ حيلة واحدة؛ أن تَرفع المصاحف، فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفّهم، وتكسر من حدّهم، وتفتّ في أعضادهم. قال معاوية: فشأنك! فرفعوا المصاحف، ودعوهم إلى التحكّم بما فيها، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله.
فقال عليٌّ: إنَّها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن.
فاعترض الأشعث بن قيس الكندي – وقد كان معاوية استماله، وكتب إليه ودعاه إلى نفسه – فقال : قد دعا القوم إلى الحقّ ! فقال عليّ ( عليه السلام ) : إنّهم إنّما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم. فقال الأشعث: والله، لئن لم تُجبهم انصرفتُ عنك. ومالت اليمانيّة مع الأشعث، فقال الأشعث: والله، لتجيبنَّهم إلى ما دعوا إليه، أو لندفعنّك إليهم برمّتك”(4)
أقول: هذا النص يوضِّح أن جيش أمير المؤمنين (ع) قد ظهر ظهوراً شديداً على جيش معاوية ممَّا دفع معاوية إلى أنَّ يهمَّ بالفرار بغية النجاة، وعلى إثر ذلك أدلى عمرو بن العاص سعياً منه لاستدراك الموقف، فأشار على معاوية برفع المصاحف، وعبَّر عن ذلك بالحيلة، وأنَّ أثرها هي كفُّهم عن القتال أو كسر حدَّتهم – على حدِّ تعبيره- وأفاد النصُّ أن الإمام عليَّا (ع) حذَّر جيشه من الانخداع برفع جيش معاوية للمصاحف ووصف رفعهم للمصاحف ودعوتهم للتحكيم بالمكيدة، وأفاد بأنَّهم “ليسوا بأصحاب قرآن” ، وأنَّهم إنما “أرادوا صرفكم عنهم”.
النص الرابع: مروج الذهب – في ذكر ما جري يوم الهرير – : وكان الأشتر في هذا اليوم – وهو يوم الجمعة – على ميمنة عليٍّ، وقد أشرف على الفتح، ونادت مشيخة أهل الشام: يا معشر العرب ! اللهَ اللهَ في الحرمات والنساء والبنات. وقال معاوية: هلمّ مخبّآتك يا بن العاص؛ فقد هلكنا، وتذكّر ولاية مصر، فقال عمرو: أيّها الناس! من كان معه مصحفٌ فليرفعه على رمحِه.
فكثر في الجيش رفع المصاحف، وارتفعت الضجّة، ونادَوا: كتاب الله بيننا وبينكم؛ مَن لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومَن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومَن لجهاد الروم؟ ومَن للترك؟ ومَن للكفّار؟ ورُفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف.. فلمّا رأى كثيرٌ من أهل العراق ذلك قالوا: نُجيب إلى كتاب الله ونُنيب إليه، وأحبّ القوم الموادعة ، وقيل لعليٍّ : قد أعطاك معاوية الحقّ ، ودعاك إلى كتاب الله فاقبَلْ منه، وكان أشدّهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس” .(5)
أقول: وهذا النصُّ يؤكد أنَّ جيش أمير المؤمنين(ع) أشرف على الفتح، وأنَّ معاوية أدرك ذلك جليَّاً كما يُعبِّر عنه قوله لابن العاص:” فقد هلكنا” ويؤكِّد هذا النصُّ أنَّ رفع المصاحف كان خديعة كما يعبِّر عن ذلك قول معاوية لعمرو بن العاص: “هلمّ مخبّآتك يا بن العاص؛ فقد هلكنا، وتذكّر ولاية مصر” والفقرة الأخيرة تُشير إلى أنَّ الغاية من حرص ابن العاص على مؤزارة معاوية هو ما وعده إيَّاه من إعطائه مصر طعمةً في مقابل مؤازرته.
النص السادس: وقعة صفّين عن عمر بن سعد: لمّا رفع أهلُ الشام المصاحف على الرماح يدعون إلى حكم القرآن قال عليّ ( عليه السلام ): عبادَ الله ! إنّي أحقّ مَن أجاب إلى كتاب الله، ولكنَّ معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي مُعَيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرَفُ بهم منكم، صحبتُهم أطفالاً، وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال، وشرَّ رجال.
إنّها كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة. أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة، فقد بلغ الحقُّ مقطعَه، ولم يبقَ إلاّ أنْ يُقطعَ دابرُ الذين ظلموا”(6)
أقول: هذا النصُّ من خطبةٍ لأمير المؤمنين(ع) يؤكِّد فيها أنَّ المعركة على وشك الحسم وأنَّ ذلك لا يسترعي أكثر من أنْ يُعيروه سواعدهم وجماجمهم ساعةً “فقد بلغ الحقُّ مقطعه ولم يبق إلا أنْ يُقطع دابر الذين ظلموا” وأكَّد (ع) لجيشه أنَّ هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنَّه يعرفهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شرَّ أطفالٍ وشرَّ رجال، وأنَّهم إنَّما أرادوا من رفع المصاحف “الخديعةَ والوهنَ والمكيدة”.
النص السابع: الفتوح : كان معاوية بعد ذلك – توقف الحرب- يقول : والله ، لقد رجع عنّي الأشتر يوم رفع المصاحف، وأنا أُريد أنْ أسأله أنْ يأخذ ليَ الأمان من عليٍّ . وقد هممتُ ذلك اليوم بالهرب..”(7)
فهذه النصوص – وغيرُها كثير- تُؤكِّد أنَّ رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى كانت مكيدة أُريد منها إيقاف الحرب ولو إلى حين بعد أنْ كانت الهزيمة قاب قوسين أو أدنى، فهم حين أيقنوا بذلك احتالوا لإيقاف الحرب إلى أنْ يستجمعوا قوَّتهم برفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم، فلم يكن من قصدهم الرجوع إلى كتاب الله تعالى، فهم ليسوا من أهله، وإنَّما أرادوا إمَّا إيقاع الفتنة والشقاق في صفوف جيش أمير المؤمنين (ع) وبذلك يشقُّ عليه الحسم للمعركة لو كان القرار هو الاستمرار في الحرب، وإمَّا أنْ يكون القرار هو الإيقاف للحرب ابتداءً وبذلك يتهيأ لهم الاستجماع لقوَّتهم. وعلى كلا التقديرين يبلغون مرادهم من رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم.
كيفيَّة رفع المصاحف:
هذا وقد أشارت النصوص السابقة إلى كيفيَّة رفع المصاحف وأنَّها رُفعت فوق الرماح من قِبَل جيش الشام، ولعلَّ مِن أجمع النصوص في ذلك ما أورده في كتاب وقعة صفّين عن تميم بن حذيم : لمَّا أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا ، فإذا أشباه الرايات أمام صفِّ أهل الشام وسط الفيلق من حيال موقف معاوية، فلمَّا أسفرنا إذا هي المصاحف قد رُبطت على أطراف الرماح، وهي عظام مصاحفِ العسكر، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يُمسكه عشرة رهط .
وقال أبو جعفر وأبو الطفيل: استقبَلوا عليّاً بمائة مصحف، ووضعوا في كلّ مُجنَّبة مائتي مصحف، وكان جميعها خمسمائة مصحف. قال أبو جعفر : ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال عليٍّ ( عليه السلام ) ، وقام أبو شريح الجذامي حِيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المُعمّر حِيال الميسرة، ثمّ نادوا : يا معشر العرب ! اللهَ اللهَ في نسائكم وبناتكم، فمَن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم، اللهَ اللهَ في دينكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم .
فقال عليٌّ : اللهمَّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتابَ يُريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنّك أنت الحَكَمُ الحقُّ المبين. فاختلف أصحاب عليٍّ في الرأي، فطائفةٌ قالت: القتال، وطائفةٌ قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب وقد دُعينا إلى حكم الكتاب” (8)
وذكر أيضاً وقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر: “بعث معاوية أبا الأعور السلمي على بِرْذَوْن أبيض، فسار بين الصفّين؛ صفِّ أهل العراق وصفِّ أهل الشام، والمصحف على رأسه وهو يقول : كتاب الله بيننا وبينكم” (9).
مبادرة الإمام(ع) للتحذير والتأكيدة على أنَّها مكيدة:
ثم إنَّه وبعد أنْ رفع جيش معاوية المصاحف وقام خطباؤهم بين الصفين يدعون إلى تحكيم كتاب الله تعالى بادر أميرُ المؤمنين(ع) إلى مخاطبة جيشه وتعريفهم بأنَّ رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم ليس سوى مكيدة وأنَّهم ليسوا جادِّين في الرجوع إلى كتاب الله تعالى، وأنَّهم ليسوا أهل دين ولا أهل قرآن، وإنَّما يبتغون من وراء ذلك إحداث الفتنة والشقاق وكسب الوقت لاستجماع قوَّتهم التي أوشكت على الانهيار، وقد استفاضت النصوص في ذلك، ومنها ما تقدَّم من قوله (ع) : : “إنّهم إنّما كادوكم، وأرادوا صرفكم عنهم”. وقوله (ع): “إنّها كلمة حقّ يُراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة. أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة، فقد بلغ الحقُّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يُقطع دابر الذين ظلموا” وقوله (ع): “إنّها مكيدة، وليسوا بأصحاب قرآن” .
وقال (ع) : “ويحكم ! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله ، وأوّلُ من أجاب إليه ، وليس يحلُّ لي ولا يسعني في ديني أنْ أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما أُقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن؛ فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتُكم أنَّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العملَ بالقرآن يُريدون” (10)
ثم إنَّه ورغم المحاولات الدؤوبة والمضنية التي بذلها أمير المؤمنين (ع) في تنبيه جيشه من الاغترار، وتعريفهم بالغاية من وراء رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم، ورغم تعريفهم بخطورة الاستجابة وأنَّها تفضي إلى تضعضع قوى الإسلام وتورث وهناً وذلَّة وأنَّهم إنْ استجابوا إلى هذه الدعوة فإنَّهم لن يوافقوا بعدها رشدا ولن يصيبوا حزما فكان فيما قاله لهم: “لقد فعلتم فعلة ضعضعت من الإسلام قواه ، وأسقطت مُنّته، وأورثتْ وهناً وذلّة . لمَّا كنتم الأعلَين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحرَّ بهم القتل ، ووجدوا ألمَ الجراح؛ رفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها ليفثؤوكم عنهم، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم، ويتربَّص بكم ريبَ المنون خديعةً ومكيدة. فما أنتم إنْ جامعتموهم على ما أحبّوا، وأعطيتموهم الذي سألوا إلاّ مغرورون وأيمُ الله، ما أظنّكم بعدها موافقي رشد، ولا مصيبي حزم”(11)
الكثير بل الأكثر أصرُّوا على الاستجابة:
فرغم المحاولات المضنية التي بذلها أميرُ المؤمنين(ع) وكذلك أهل البصائر من أصحابه إلا أنَّ الكثير من أفراد ومجاميع جيشه -ولعلَّه الأكثر- أصروا على الاستجابة للدعوة إلى التحكيم بل تمادى الكثيرُ من هؤلاء وهدَّدوا بالتمرُّد، وهدَّد القرَّاء أصحاب الجباه السود وهم ألوف بقتل أمير المؤمنين (ع) إنْ لم يقبل بالتحكيم وتجاسر الأشعث بن قيس ومعه يمانية العراق وهدَّد أمير المؤمنين (ع) بقتله أو تسليمه لمعاوية .
ولكي يكون المشهد أكثر وضوحاً ننقل بعض النصوص المتصلة بذلك:
النص الأول: وقام الناس إلى عليٍّ فقالوا: أجِب القوم إلى ما دعوك إليه؛ فإنّا قد فُنينا . . . أكلتنا الحرب وقُتلت الرجال. وقال قومٌ: نُقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمسِ. ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس، ثمّ رجعوا عن قولهم مع الجماعة، وثارت الجماعة بالموادعة.
فقام عليٌّ أمير المؤمنين فقال: إنّه لم يزل أمري معكم على ما أُحبّ إلى أنْ أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذتْ منكم وتركت، وأخذتْ من عدوّكم فلم تترك، وإنَّها فيهم أنكى وأنهك. ألا إنِّي كنتُ أمسِ أمير المؤمنين، فأصبحتُ اليوم مأموراً، وكنتُ ناهياً فأصبحتُ منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أنْ أحملكم على ما تكرهون”(12)
أقول: هذا النصُّ يكشف عن أنَّ أكثر جيش أمير المؤمنين (ع) كان رأيهم إيقاف الحرب والاستجابة إلى التحكيم، ويكشف النصُّ عن أنَّ منشأ قبولهم بالتحكيم هو الوهن والرغبة في العافية والسلامة، وهذا ما يعبِّر عنه قولهم : “أكلتنا الحرب وقُتلت الرجال” ويكشفُ النصُّ عن أنَّهم توسلوا لإرغام الإمام (ع) على القبول بالموادعة باللغط وإثارة الفوضى والرهج، فلم يسلكوا لبيان رؤيتهم ما يقتضيه الموقف من التشاور والتداول بل اعتمدوا طريق الفرض واستقووا عليه بالتحشيد والترهيب والتحريض، ثم تجاوزا ذلك إلى التهديد بالقتل، ولذلك قال لهم أمير المؤمنين (ع) : ” ألا إنِّي كنتُ أمسِ أميرَ المؤمنين، فأصبحتُ اليوم مأموراً، وكنتُ ناهياً فأصبحتُ منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أنْ أحملكم على ما تكرهون” فالنصُّ يكشف عن أنَّ قبول الإمام (ع) بالتحكيم لم يكن من أمره ولم يكن عن رضىً منه بل أُلجأ إليه إلجاءً دفعاً لمفسدة أعظم. ويكشف النص عن أنَّ منشأ إصرارهم على القبول بالموادعة هو الحبُّ والرغبة في البقاء والعافية.
النص الثاني: مروج الذهب – بعد ذكر رفع المصاحف – : فلمّا رأى كثير من أهل العراق ذلك، قالوا : نُجيب إلى كتاب الله ونُنيب إليه، وأحبّ القوم الموادعة، وقيل لعليٍٍّ : قد أعطاك معاوية الحقَّ، ودعاك إلى كتاب الله، فاقبلْ منه، وكان أشدّهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس، فقال عليٌّ : أيّها الناس ! إنّه لم يزل من أمركم ما أُحبُّ حتى قرحتكم الحرب، وقد والله أخذتْ منكم وتركتْ، وإنّي كنت بالأمس أميراً، فأصبحتُ اليوم مأموراً، وقد أحببتم البقاء”(13)
أقول: وهذا النصُّ يكشف أيضاً عن أنَّهم ألجئوا أمير المؤمنين (ع) على القبول بالتحكيم، وأنَّه لم يعد في هذا الشأن أميراً بل مأمور، وبيَّن أمير المؤمنين (ع) أنَّ إصرارهم على القبول بالموادعة هو حبُّ البقاء والعافية، وليس كما يزعمون الإنابة إلى كتاب الله تعالى.
النص الثالث: الإمام عليّ ( عليه السلام ) ومن كلام له ( ع ) – قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّه لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ – حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ – وقَدْ واللَّه أَخَذَتْ مِنْكُمْ وتَرَكَتْ – وهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ – . لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً – وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً – وقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ ولَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ” (14)
أقول: يضيف الإمام (ع) في هذا النص إلى أنَّه لا يسعه أنْ يحملهم على ما يكرهون، فالجهاد لا يكون بالإكراه على أنَّه لو أصرَّ على الاستمرار فإنَّهم لن يستجيبوا له.
النص الرابع: “.. فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت جباههم من السجود! يتقدَّمُهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعدُ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا عليّ ! أجِب القوم إلى كتاب الله إذ دُعيت إليه، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنّها إن لم تُجبْهم. فقال لهم: ويحكم ! أنا أوّلُ من دعا إلى كتاب الله، وأوّل من أجاب إليه، وليس يحلُّ لي ولا يسعني في ديني أنْ أُدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إنّي إنّما أُقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن؛ فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتُكم أنَّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العملَ بالقرآن يُريدون. قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك. وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله ” (15) .
أقول: هذا المشهد المؤسف يلخِّص عظيم المحنة التي ابتُلي بها أمير المؤمنين(ع) عشرون ألفاً من أصحاب الجباه السود قد نفخ الشيطان في جوانحهم فأوهمهم أنَّهم الأحرص على الاستجابة لكتاب الله تعالى من أمير المؤمنين (ع) جاؤوا وقد امتلئت أفئدتهم بالعجب والاعتداد بالذات يزعمون أنَّهم يغضبون لكتاب الله وقد أوصدوا أسماعهم وعقولهم، لذلك لم يعبئوا بما أفاده أمير المؤمنين (ع) من “أنَّهم قد كادوكم، وأنّهم ليسوا العملَ بالقرآن يُريدون”. فلم يزيدوا على أن قالوا: “فابعث إلى الأشتر ليأتيك” يعني أنَّ الأمر ليس إليك وأنَّ عليك القبول بالتحكيم “وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان” .
النص الخامس: وقعة صفّين عن إبراهيم بن الأشتر: كنتُ عند عليٍّ حين أكرهه الناس على الحكومة، وقالوا : ابعث إلى الأشتر فليأتِك. قال: فأرسل عليٌّ إلى الأشتر يزيد بن هانئ السبيعي أنْ ائتني. فأتاه فبلّغه.
فقال: قل له: ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أنْ تُزيلني فيها عن موقفي، إنّي قد رجوتُ أن يفتح لي؛ فلا تعجلني.
فرجع يزيد بن هانئ إلى عليّ فأخبره، فما هو إلاّ أنْ انتهى إلينا، فارتفع الرَّهَج، وعَلَت الأصوات من قبل الأشتر، فقال له القوم : .. فابعث إليه فليأتك، وإلاّ والله اعتزلناك.
قال له: ويحَك يا يزيد! قل له: أقبِلْ إليَّ ؛ فإنّ الفتنة قد وقعت !
فأبلغه ذلك، فقال له: ألرفعِ المصاحف ؟ قال: نعم، قال: أما والله ، لقد ظننتُ حين رُفعت أنّها ستُوقع اختلافاً وفرقة، إنّها مشورة ابن العاهرة، ألا ترى ما صنع الله لنا ! أينبغي أنْ أدع هؤلاء وأنصرف عنهم !
وقال يزيد بن هانئ: فقلت له: أتحبِّ أنّك ظفرت هاهنا، وأنّ أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يُفرج عنه أو يُسْلَم؟
قال: لا والله، سبحان الله ! قال: فإنّهم قد قالوا : لترسلنّ إلى الأشتر فليأتينّك أو لنقتلنّك كما قتلنا ابن عفّان .
فأقبل حتى انتهى إليهم فقال: يا أهل العراق! يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم ظهراً، وظنّوا أنّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله عزّ وجلّ به فيها، وسُنّة من أُنزلت عليه (صلى الله عليه وآله)؟ فلا تُجيبوهم، أمهلوني عدْو الفرس؛ فإنّي قد طمعت في النصر.
قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك .. فقال: خُدعتم والله فانخدعتم، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود! كنّا نظنّ صلواتكم زهادة في الدنيا، وشوقاً إلى لقاء الله عزّ وجلّ ، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت . ألا قبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة! وما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً، فأبعدوا كما بعد القوم الظالمون..”(16)
أقول: وهذا النص كسابقه يؤكِّد أنَّ أصحاب الجباه السود الذين صار أكثرهم بعد ذلك من الخوارج لم يدعوا لأمير المؤمنين(ع) خياراً إلا القبول بالتحكيم أو الانشقاق والسعي لقتل أمير المؤمنين (ع) فذلك هو ما دفع مالك الاشتر ومن معه إلى التراجع عن الموقع المتقدِّم الذي أشرف به على إيقاع الهزيمة الكاملة لجيش معاوية فلو أنَّهم أحجموا عن القتال دون أن يُلجئوا الإمام (ع) إلى الأمر بإيقاف الحرب لكان من الممكن أنْ يحسم مالكٌ الاشتر ومن معه المعركة إلا أنَّهم تمادوا في غيِّهم وأقسموا إن لم يرجع الأشتر ومن معه أن يقتلوا أمير المؤمنين (ع) فهم إنْ أقدموا على ذلك فإما أن يتمكنوا من قتله (ع) أو تنشب معركة دامية بين صفوف الجيش وعلى كلا التقديرين ستفضي الفتنة إلى موضع يتعذر معه التدارك .
القبول بالتحكيم:
قبل الإمام أمير المؤمنين (ع) بالتحكيم على مضضٍ خشية الوقوع في مفسدةٍ أعظم وهي الفتنة والشقاق بين صفوف جيشه والآثار الكارثية المترتبة على ذلك، وبذلك تمَّ الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي اختيار الحكم لكلِّ فريق فاختار معاوية عمرو بن العاص فلم يختلف على خياره أحدٌ من جيش الشام، وأمَّا جيش العراق فاختار لهم أمير المؤمنين (ع) عبد الله بن عباس إلا أنَّ الأشعث بن قيس ومن معه من اليمانية، وكذلك أصحاب الجباه السود أصرُّوا على عدم القبول بعبد الله بن عباس فقال لهم أمير المؤمنين عصيتموني في الأولى فلا تعصوني في الثانية فإنَّ عبد الله بن عباس هو الأحدر بهذه المهمَّة لكنَّهم أصروا على رفضهم لاختياره، فاختار لهم بعد استفراغه الوسع في إقناعهم بقبول عبد الله بن عباس دون جدوى اختار لهم بعده مالك الأشتر إلا أنَّهم لم يقبلوا به أيضاً، واختاروا أبا موسى الأشعري رغم أنَّه لم يكن في جيش أمير المؤمنين(ع) وكان معتزلاً وكان يثبط الناس عن أمير المؤمنين(ع) ، فذكر لهم أمير المؤمنين (ع) أنَّه لا يثقُ به ولا بقدرته على إدارة هذه المرحلة خصوصاً وأنَّ خصمه عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب ولكنَّهم أصرُّوا على اختياره فقال لهم شأنكم وما تريدون بعد تحذيرهم من مغبَّة هذا الاختيار . وبذلك تمَّ اختيار الحكمين ليفصلا في القضية على أن يعتمدا القرآن المجيد فيما يحكمان به فلا يحيدان عنه قيد شعرة ويكون حكمهما بالتوافق. بمعنى أنَّ حكمهما لا يكون ناجزاً وملزماً إلا مع التوافق عليه من قبلهما .
ونذكر في المقام بعض النصوص التي توثق ما ذكرناه:
النص الأول: الإمام الباقر ( عليه السلام ) : لمّا أراد الناس عليّاً على أنْ يضع حكمين قال لهم عليّ : إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص، وإنّه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله، فعليكم بعبد الله بن عبّاس فارموه به؛ فإنَّ عَمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلّها عبد الله، ولا يحلُّ عقدةً إلاّ عقدها، ولا يُبرم أمراً إلاّ نقضه، ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه .
فقال الأشعث: لا والله، لا يحكم فيها مضريّان حتى تقوم الساعة، ولكنْ اجعله رجلاً من أهل اليمن، إذ جعلوا رجلاً من مضر. فقال عليٌّ: إنِّي أخاف أنْ يُخدع يَمنيّكم؛ فإنَّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في أمرٍ هوًى . فقال الأشعث: والله، لأنْ يحكما ببعض ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن، أحبُّ إلينا من أنْ يكون بعض ما نُحبُّ في حكمهما وهما مضريّان”(17).
أقول: في هذا النصِّ يُبيِّن الإمام أمير المؤمنين (ع) منشأ اختياره لعبد الله بن عباس وأنَّه الأكفأ والأجدر بهذه المهمَّة خصوصاً وأنَّ الخصم هو عمرو بن العاص الذي وصفه الإمام(ع) بأنَّه “ليس من الله في شيء إذا كان له في أمرٍ هوًى” بمعنى أنَّه لا يراقب الله ولا يخشاه ولا يتقيه خصوصاً في الأمور التي له فيها هوى، فهو لا يرعى حكم الله في مقابل ما يهواه.
والمُلفت هو جواب الأشعث حيث لم يعبأ بتحذير أمير المؤمنين (ع) بل إنَّه كشف عن نفاقه فذكر أنَّه لا يُبالي أيَّاً كان الحكم الذي يحكمان به إذا كان أحد الحكمين يمانياً، فالباعث على اختيار أبي موسى الأشعري هو التعصُّب للقبيلة وليس للدين.
النصُّ الثاني: الأخبار الطوال : اجتمع قرّاء أهل العراق وقرّاء أهل الشام ، فقعدوا بين الصفّين ، ومعهم المصحف يتدارسونه، فاجتمعوا على أنْ يُحكّموا حكمين ، وانصرفوا. فقال أهل الشام : قد رضينا بعمرو .
وقال الأشعث ومَن كان معه من قرّاء أهل العراق: قد رضينا نحن بأبي موسى. فقال لهم عليّ: لستُ أثق برأي أبي موسى، ولا بحزمه، ولكن أجعل ذلك لعبد الله بن عبّاس. قالوا : والله ، ما نفرّق بينك وبين ابن عبّاس، وكأنّك تريد أن تكون أنت الحاكم، بل اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى أحد منكما بأدنى منه إلى الآخر.
قال عليٌّ: فلِمَ ترضون لأهل الشام بابن العاص، وليس كذلك؟ قالوا: أُولئك أعلم، إنّما علينا أنفسنا. قال: فإنّي أجعل ذلك إلى الأشتر. قال الأشعث: وهل سعَّر هذه الحرب إلاّ الأشتر ؟ وهل نحن إلاّ في حكم الأشتر؟ قال عليّ : وما حكمه ؟ قال : يضرب بعض وجوه بعض حتى يكون ما يريد الله ، فقد أبيتم إلا أن تجعلوا أبا موسى قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أحببتم” (18)
أقول: في هذا النص يُبين الإمام (ع) منشأ عدم قبوله بأبي موسى الأشعري وأنَّه لا يثقُ برأيه ولا بحزمه، وقبول الخصم بأن يكون الحكم له والممثل عنه في الخصومة من لا يثق برأيه ولا بحزمه يعدُّ مجازفةً خطيرة إلا أنَّهم لم يعبئوا بتحذير أمير المؤمنين(ع) وزعموا أنَّه يتعيَّن اختيار رجلٍ محايد وهو غريب، إذ أنَّهم إنَّما يختارون رجلاً ممثلاً عنهم ومدافعاً عن حقهم فكيف يختارون رجلاً محايداً؟! على أنَّ أبا موسى الأشعري لم يكن محايداً بل كان منابذاً لأمير المؤمنين (ع) وكان يُخذِل الناس عنه، ثم أنَّ أهل الشام قد اختاروا عمرو بن العاص ولم يكن محايداً بل هو الرجل الثاني بعد معاوية في البغي والحرب على أمير المؤمنين (ع). فقولهم : “اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى أحدٍ منكما بأدنى منه إلى الآخر” منافٍ لأوضح مقتضيات التحكيم والذي يتعيَّن فيه اختيار ممثل لكل طرف تكون وظيفته الدفاع عمَّن يمثِّله وهو في ذات الوقت إجحاف بيِّن حيث قبلوا أنْ يكون ممثل معاوية وجيش الشام رجلاً هو أشدِّ المناصرين لمعاوية والمناوئين لأمير المؤمنين (ع) . وقد نقض عليهم أمير المؤمنين (ع) بذلك فقال : “فلِمَ ترضون لأهل الشام بابن العاص، وليس كذلك؟!” يعني أنَّه ليس محايداً وليس منه ومن معاوية سواء؟!
ثم إنَّ الإمام(ع) في نهاية المطاف أكَّد أنَّ أبا موسى الأشعري ليس خياراً له وأنَّه اختيارهم، لذلك فهم مَن يتحمل تبعات اختياره قال: فقد أبيتم إلاّ أن تجعلوا أبا موسى؟! قالوا: نعم . قال : فاصنعوا ما أحببتم” فاختيار أبي موسى من جعلهم وليس من جعله. فهم من يتحمل عند الله تعالى والتأريخ تبعات جعله حكماً لهم .
النص الثالث: الإمام عليّ ( عليه السلام ) – من كلام له في شأن الحكمين: “.. أَلَا وإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ – أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ – وإِنَّكُمُ اخْتَرْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ – أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ – وإِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللَّه بْنِ قَيْسٍ بِالأَمْسِ يَقُولُ – إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وشِيمُوا سُيُوفَكُمْ – فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِه غَيْرَ مُسْتَكْرَه – وإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْه التُّهَمَةُ – فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – بِعَبْدِ اللَّه بْنِ الْعَبَّاسِ – وخُذُوا مَهَلَ الأَيَّامِ وحُوطُوا قَوَاصِيَ الإِسْلَامِ – أَلَا تَرَوْنَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى وإِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى” (19)
أقول: في هذا النصِّ يُبيِّن لإمام (ع) أنَّ أهل الشام اختاروا لأنفسهم أحرصهم على الذود عن مصالحهم واخترتم أنتم أقرب الناس إلى اختيار ما تكرهون، وفي ذلك تسفيه لرأيهم، إذ لا يصدر ذلك عن العقلاء الحريصين على الذود عن مصالحهم، ثم بيَّن لهم الواقع الذي عليه أبو موسى الأشعري تأكيداً لهم على عدم صلاحه لهذه المهمة، فهو ليس منهم، وكان يثبِّط الناس عن قتال الفئة الباغية التي فرض الله على المؤمنين قتالها، ثم عاد (ع) وأكَّد لهم أنَّ الأجدر بهذه المهمَّة هو عبد الله بن عباس وأنَّ اختياره هو الأحوط لقواصي الإسلام .
النص الرابع: تاريخ الطبري عن أبي مخنف :” … فقال أهل الشام : فإنّا قد اخترنا عمرو بن العاص . فقال الأشعث وأُولئك الذين صاروا خوارج بعدُ : فإنّا قد رضينا بأبي موسى الأشعري .
قال عليٌّ : فإنّكم قد عصيتموني في أوّل الأمر، فلا تعصوني الآن ، إنِّي لا أرى أنْ أُولِّي أبا موسى .
فقال الأشعث، وزيد بن حُصين الطائي، ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلاّ به، فإنَّه ما كان يُحذّرنا منه وقعنا فيه .
قال عليٌّ: فإنّه ليس لي بثقة، قد فارقني، وخذَّل الناس عنّي، ثمّ هرب منّي حتى آمنته بعد أشهر، ولكنَّ هذا ابن عبّاس نولِّيه ذلك . قالوا : ما نُبالي أنتَ كنتَ أم ابن عبّاس! لا نريد إلاّ رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحدٍ منكما بأدنى منه إلى الآخر. فقال عليٌّ : فإنّي أجعل الأشتر.
قال أبو مخنف : . . . أنّ الأشعث قال: وهل سعَّر الأرض غير الأشتر ؟ ! .. وهل نحن إلاّ في حكم الأشتر؟!
قال عليٌّ: وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضُنا بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردتَ وما أراد . قال: فقد أبيتم إلاّ أبا موسى ؟! قالوا : نعم. قال : فاصنعوا ما أردتم ..” (20)
أقول: وهذا النصُّ كسابقه يؤكِّد أنَّ الإمام (ع) لا يرضى بأبي موسى الأشعري وأنَّه لا يثق به، وأنَّه لا يصلح لتمثيله لكونه منابذاً له، وكان يُخذِّل الناس عن مناصرته.
ثم إنَّ الإمام (ع) ناشدهم أنْ لا يُعصوه فيمَن اختاره لهم حكَماً كما عصوه في إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم إلا أنَّهم أبوا إلا مجاهرته بالعصيان له، وأصرَّوا على رفض من اختاره لهم كما أصرَّوا على اختيار أبي موسى الأشعري الذي يعرفون موقفَه من أمير المؤمنين (ع) وموقف أمير المؤمنين (ع) منه، وذلك هو أقصى ما تكون عليه الوقاحة .
صحيفة التحكيم:
تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه – في ذكر ما اشتملت عليه صحيفة التحكيم – : ” بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنّا ننزل عند حكم الله عزّ وجلّ وكتابه ، ولا يجمع بيننا غيره ، وإنّ كتاب الله عزّ وجلّ بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نُحيي ما أحيا، ونُميت ما أمات. فما وجد الحكمان في كتاب الله عزّ وجلّ – وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص القرشي – عمِلا به، وما لم يجدا في كتاب الله عزّ وجلّ فالسنّةُ العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان مِن عليّ ومعاوية ومِن الجندين من العهود والميثاق، والثقة من الناس، أنّهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأُمّة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه. وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنّا على ما في هذه الصحيفة، وأنْ قد وجبت قضيّتهما على المؤمنين، فإنَّ الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم. وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أنْ يحكما بين هذه الأُمّة، ولا يَرُدّاها في حرب ولا فرقة حتى يُعصيا، وأجلُ القضاء إلى رمضان. وإنْ أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه على تراضٍ منهما، وإنْ توفِّي أحد الحكمين فإنّ أمير الشيعة يختار مكانه، ولا يألو من أهل المَعدلة والقسط. وإنّ مكان قضيّتهما الذي يقضيان فيه مكانٌ عدلٌ بين أهل الكوفة وأهل الشام، وإنْ رضيا وأحبّا فلا يحضرهما فيه إلاّ من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثمّ يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة، وهم أنصار على مَن ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيه إلحاداً وظلماً. اللهمّ! إنّا نستنصرُك على مَن ترك ما في هذه الصحيفة”.(21)
تاريخ الطبري عن أبي جعفر: كتب كتاب القضيّة بين عليّ ومعاوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة على أن يوافي عليّ ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان” (22)
قيل لعليّ ( عليه السلام ) حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام : أتقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون؟ فقال عليّ ( عليه السلام ): ما أقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنَّهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء، ويقرّ بما شاء لنفسه ولأصحابه، ويسمّي نفسه بما شاء وأصحابه”(23)
أقول: اشتملت وثيقة التحكيم – بحسب هذا النص- على أن يكون الحكمان أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، الأول يمثِّل جيش الكوفة، والثاني يُمثل جيش الشام، واشتملت الوثيقة على التزام الطرفين بالنزول عند حكم الله عزَّوجلّ وكتابه، وأنَّه لا يجمع بينهم غيره، وأنَّ كتاب الله مِن فاتحته إلى خاتمته حجةٌ عليهم جميعاً، يُحيون ما أحيا ويُميتون ما أمات، وأنَّ على الحكمين أنْ يعملا بكتاب الله تعالى، ومقتضى ذلك هو لزوم التحرِّي واستفراغ الوسع، وحين لا يجدان ما يحكمان به في كتاب الله عزّ وجلّ فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة، وأنَّ على الحكمين عهد الله وميثاقه أنْ يحكما بين هذه الأُمّة، ولا يَرُدّاها في حرب ولا فرقة، يعني أنَّ يراعيا فيما يحكمان به عموم الأمة، فلا يمالئ أحدهما أو كلاهما طرفاً على طرف بل يكون مستندهما محضاً هو كتاب الله فيحكمان بما يوافقه ولا يناقضه، فإنْ لم يجدا ذلك في كتاب الله فالمعتمد هي السنَّة الشريفة المتوافق على صدورها والمقتضية لجمع الكلمة، وأنَّ على الفريقين الالتزام بما في الصحيفة ومنابذة كلِّ مَن ينقضها وأنَّ على الحكمين وشهود الصحيفة أنْ ينتصروا لمن التزم بما في الصحيفة وأن يكونوا حرباً على مَن ترك ما في الصحيفة .
المشهد الذي تعقَّب التوقيع على وثيقة التحكيم:
وما إنْ تمَّ الاتفاق على وثيقة التحكيم حتى تبيَّن لأصحاب الجباه السود أنَّهم أخطأوا في قبولهم بالتحكيم وأخذوا يطالبون أمير المؤمنين(ع) بنقض الاتفاق وهو ما لا يسع أمير المؤمنين (ع) فعله بعد العهد والميثاق إلى أنْ يظهر للعيان مناقضة معاوية أو الحكمين أو أحدهما لمقتضيات الميثاق الذي تواثقوا عليه، عندها يكون أمير المؤمنين (ع) في سعة من جهة هذا الميثاق .
ولكي نقف على المشهد الذي تعقَّب التوقيع على وثيقة التحكيم ننقب بعض النصوص المتصلة بذلك:
النص الأول: الإمام عليّ ( عليه السلام ) – في جواب الخوارج المعترضين على التحكيم قبل دخول الكوفة – : اللهمّ هذا مقامُ من فَلَج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نَطِفَ فيه أو غَلَّ فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً . نشدتُكم بالله ! أتعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف، فقلتم : نُجيبهم إلى كتاب الله، قلتُ لكم: إنّي أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دينٍ ولا قرآن، إنّي صحبتُهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً ؛ فكانوا شرّ أطفال، وشرّ رجال، امضوا على حقّكم وصدقكم، إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعةً ووهناً ومكيدة . فرددتم عليَّ رأيي ، وقلتم : لا، بل نقبلُ منهم . فقلتُ لكم : اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي ؟ فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب، اشترطت على الحَكَمَين أن يُحييا ما أحياه القرآن، وأن يُميتا ما أمات القرآن؛ فإنْ حكما بحكم القرآن فليس لنا أنْ نُخالف حُكم من حَكَم بما في الكتاب، وإنْ أبيا فنحن مِن حكمهما بُرَآء .
فقال له بعض الخوارج : فخبّرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنّا لم نحكّم الرجال، إنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطٌّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، وإنّما يتكلّم به الرجال . قالوا له : فخبّرنا عن الأجل؛ لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم. قال : ليتعلّم الجاهل، ويتثبّت العالم، ولعلّ الله أنْ يُصلح في هذه الهدنة هذه الأُمّة . ادخلوا مصركم رحمكم الله . ودخلوا من عند آخرهم.(24)
في هذا النص يردُّ الإمام (ع) على ما زعمته الخوارج من تحمُّله مسئولية القبول بالتحكيم أو تحمله لجزء من المسئولية، فذكرهم بموقفه الصارم والواضح حين رُفعت المصاحف وأنَّه قال لهم إنها مكيدة ووهن وخديعة لكنهم أبو إلا الاستجابة وذكرهم أنَّه قال لهم حينها: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إيّاي” ثم أفاد (ع) أنَّه حين أبيتم إلا الكتاب يعني التحكيم عملتُ جاهداً على ضمان عدم الانحراف عن الدين فاشترطت على الحكمين الوقوف والالتزام بما يحكم به القرآن وأنَّ لا يتجاوزوا بحكمهم ما يحكم به القرآن وإلا فحكمهم باطل ونحن منه براء .
ثم حين تمحَّل بعضهم فزعم أن ذلك من تحكيم الرجال في الدماء أجابه أمير المؤمنين (ع) بأن ذلك ليس من تحكيم الرجال في الدماء وإنَّما هو من تحكيم القرآن والقرآن خط مسطور لا ينطق وإنَّما يتكلَّم به الرجال فالحاكم هو القرآن والرجال المؤمنون به يصدرون عن الحكم الذي اشتمل عليه القرآن.
وأما ضرب الأجل لذلك فلكي يتعرف الجاهل على ما هو حكم القرآن في هذه القضية ويتثبت العالم فلا يتسرع في فيما ينسب للقرآن من حكم، على أن ضرب الأجل قد يسهم في تهدئة النفوس فتثوب العقول إلى رشدها.
النص الثاني: ومن خطبة له ( ع ) بعد ليلة الهرير – وقد قام إليه رجل من أصحابه – فقال نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها – فلم ندر أي الأمرين أرشد – فصفق ( ع ) إحدى يديه على الأخرى – ثم قال هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ – أَمَا واللَّه لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ – بِه حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوه – الَّذِي يَجْعَلُ اللَّه فِيه خَيْراً – فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ – وإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ – وإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ الْوُثْقَى – ولَكِنْ بِمَنْ وإِلَى مَنْ – أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وأَنْتُمْ دَائِي – كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ – وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا – اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ – وكَلَّتِ النَّزْعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ – أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلَامِ فَقَبِلُوه – وقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوه – وهِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا – وَلَه اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا – وسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا – وأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً – وصَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وبَعْضٌ نَجَا – لَا يُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ – ولَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى – مُرْه الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ – خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ – ذُبُلُ الشِّفَاه مِنَ الدُّعَاءِ – صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ – عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ – أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ – فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ – ونَعَضَّ الأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ – إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَه – ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً – ويُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ – وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ – فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِه ونَفَثَاتِه – واقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ – واعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ” (25)
النصُّ الثالث: تاريخ الطبري عن عمارة بن ربيعة – في صفة أصحاب الإمام ( عليه السلام ) – : خرجوا مع عليّ إلى صفّين وهم متوادّون أحبّاء ، فرجعوا متباغضين أعداء ، ما برحوا من عسكرهم بصفّين حتى فشا فيهم التحكيم، ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كلّه ويتشاتمون ويضطربون بالسياط . يقول الخوارج : يا أعداء الله ! أدهنتم في أمر الله عزّ وجلّ وحكّمتم ! وقال الآخرون : فارقتم إمامنا ، وفرّقتم جماعتنا. فلمّا دخل عليّ الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتَوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادى مناديهم : إنّ أمير القتال شَبَث بن رِبعي التميمي ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكري ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (26)
خلاصة ما تمخَّض عنه اجتماع الحكمين:
اجتمع الحكمان في الموضع الذي تمَّ الاتفاق على أن يكون موضعاً للمفاوضات، فاقترح عمرو على أبي موسى خلع الامام علي (ع) وتعيين معاوية فلم يقبل، فاقترح عليه ولده عبد الله بن عمرو بن العاص فلم يقبل، فاقترح أبو موسى تعيين عبد الله بن عمر بن الخطاب فلم يقبل عمرو بن العاص، ثم توافقا على أنْ يخلع كلٌّ منهما صاحبه ويجعلونها شورى بين المسلمين وعندها أعلنا عن وقوع التوافق وأنَّهما سيعرضان ذلك في محضرٍ من الناس فاجتمع الناس من الطرفين ليسمعا من الحكمين ما تمَّ الاتفاق عليه من قبلهما، فقدَّم عمرو بن العاص أبا موسى ليتكلَّم أولاً فنصحه الناصحون – خشية الغدر- بأنْ يبدأ ابنُ العاص بالإعلان عن الاتفاق قبله إلا أنَّه لم يعبأ بالنصيحة فقام أبو موسى وأعلن على أنَّه وعمرو بن العاص اتفقا على أنْ يخلعا عليَّاً (ع) ومعاوية ويختار المسلمون لهم خليفة، ثم قام عمرو بن العاص فقال: إنَّ أبا موسى خلع صاحبه وأنا كذلك أخلعه وأثبِّت الأمر لصاحبي معاوية فاعترضه أبو موسى فقال لعمرو : ما لك لا وفّقك الله ! غدرتَ وفجرتَ! إنّما مَثَلك { كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحمِل عليه يَلْهَثْ أو تتركه يَلْهث}(27) قال عمرو : إنّما مَثَلك {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا }(28) ثم وقعت مشادَّات عنيفة بين الناس بعد أن تبيَّن لهم نقض الحكمين لوثيقة التحكيم فهرب أبو موسى ولحق بمكة، وبذلك فشل التحكيم وأصبحت المعاهدة لاغية .
النص الأول: تاريخ الطبري عن أبي جناب الكلبي : إنّ عمراً وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يُقدِّم أبا موسى في الكلام، يقول : إنّك صاحبُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنت أسنّ مني، فتكلَّمْ وأتكلَّمُ؛ فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أنْ يقدّمه في كلِّ شيء، اغتزى بذلك كله أنْ يقدِّمه، فيبدأ بخلع عليّ . قال: فنظر في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى ، وأراده على ابنه فأبى، وأراد موسى عَمراً على عبد الله بن عمر فأبى عليه ، فقال له عمرو : خبِّرني ما رأيك؟ قال: رأيي أنْ نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم مَن أحبّوا. فقال له عمرو: فإنّ الرأي ما رأيت. فأقبَلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلِمْهم بأنّ رأينا قد اجتمع واتّفق، فتكلّم أبو موسى فقال: إنَّ رأيي ورأي عمرو قد اتَّفق على أمرٍ نرجو أن يُصلِح اللهُ عزّوجلّ به أمرَ هذه الأُمة. فقال عمرو: صدق وبرَّ، يا أبا موسى ! تقدَّم فتكلّم، فتقدَّم أبو موسى ليتكلّم، فقال له ابنُ عبّاس: وَيْحَك ! والله إنّي لأظنّه قد خدعك. إنْ كنتما قد اتّفقتما على أمرٍ؛ فقدّمْه فليتكلَّم بذلك الأمر قبلك، ثمّ تكلّم أنتَ بعده ؛ فإنّ عَمراً رجل غادر، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضى فيما بينك وبينه، فإذا قمتَ في الناس خالفك – وكان أبو موسى مغفّلاً – فقال له : إنّا قد اتّفقنا. فتقدَّم أبو موسى فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس! إنّا قد نظرنا في أمر هذه الأُمة فلم نَرَ أصلح لأمرها، ولا ألمَّ لشعَثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلعَ عليّاً ومعاوية، وتستقبل هذه الأُمّة هذا الأمر؛ فيولّوا منهم مَنْ أحبّوا عليهم، وإنّي قد خلعتُ عليّاً ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً. ثمّ تنحَّى.
وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد اللهَ وأثنى عليه وقال: إنَّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعُ صاحبه كما خلعه، وأُثبتُ صاحبي معاوية؛ فإنّه وليّ عثمان بن عفّان، والطالب بدمه، وأحقُّ الناس بمقامه فقال لعمرو : ما لك لا وفّقك الله ! غدرتَ وفجرتَ! إنّما مَثَلك { كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحمِل عليه يَلْهَثْ أو تتركه يَلْهث}. قال عمرو : إنّما مَثَلك {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا }.
وحَمَل شُرَيح بن هانئ على عَمرو فقنّعه بالسوط، وحَمَل على شُرَيح ابنٌ لعَمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شُريح بعد ذلك يقول: ما ندمتُ على شيءٍ ندامتي على ضرب عَمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهرُ ما أتى . والتمس أهلُ الشام أبا موسى، فركب راحلتَه ولحِق بمكّة.
قال ابن عبّاس: قبّح الله رأى أبي موسى! حذّرته وأمرْته بالرأي فما عَقَل. فكان أبو موسى يقول: حذّرني ابنُ عبّاس غَدْرة الفاسق، ولكنّي اطمأننت إليه، وظننتُ أنّه لن يؤثِر شيئاً على نصيحة الأُمّة. ثمّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عبّاس وشريح بن هانئ إلى عليّ”(29)
النص الثاني: تاريخ اليعقوبي: واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الأول سنة 38. فخدع عمرو بن العاص أبا موسى، وذكر له معاوية فقال: هو وليُّ ثأر عثمان وله شرفة في قريش، فلم يجد عنده ما يحب، قال: فابني عبد الله ؟ قال: ليس بموضع لذلك. قال: فعبد الله بن عمر ؟ قال : إذاً يحيي سنة عمر، الآن حيث به. فقال: فاخلعْ علياً وأخلعُ أنا معاوية، ويختار المسلمون. وقدَّم عمرو أبا موسى إلى المنبر فلمَّا رآه عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله بن قيس، فدنا منه، فقال: إن كان عمرو فارقك على شيء، فقدِّمه قبلك، فإنَّه غدر. فقال : لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر، فخلع عليَّاً، ثم صعد عمرو بن العاص فقال: قد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي. فصاح به أبو موسى: غدرتَ يا منافق، إنَّما مثلك مثل الكلب إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . قال عمرو : إنَّك مثلك مثلُ الحمار يحمل أسفارا
وتنادى الناس: حَكَم والله الحَكَمان بغير ما في الكتاب والشرط عليهما غير هذا. وتضارب القوم بالسياط، وأخذ قوم بشعور بعض، وافترق الناس. ونادت الخوارج: كَفَر الحَكَمان، لا حُكْم إلاّ لله”(30)
أقول: الملاحظ – بحسب النصوص التي تصدَّت لبيان ما وقع في مفاوضات الحكمين- أنَّهما تجاوزا منذُ البدء ما اشتملت عليه وثيقة التحكيم، فبدأ عمرو بن العاص بمحاولة اقناع أبي موسى الأشعري بتعيين معاوية خليفة على المسلمين وحين لم يقتنع بذلك عرض عليه تعيين ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص ثم إن أبا موسى الأشعري اقترح تعيين عبد الله بن عمر ولم تعطِ الوثيقة للحكمين الصلاحية في ذلك، فصلاحيتهما تتمحض في دراسة منشأ الخلاف ومعالجته وفقاً لآيات القرآن المجيد فكان عليهما أن يبحثا عن منشأ نشوب الحرب وأي الفريقين هو المحق وحينئذٍ لن يختلفاء لو أنصفا أنَّ الحق في جانب أمير المؤمنين (ع) الذي بايعه المسلمون وفي طليعتهم المهاجرون والأنصار فكان على معاوية الدخول فيما دخل فيه المسلمون وإلا فهو باغٍ تتعين دعوته إلى أن يفيئ إلى أمر الله وإلا كان على المسلمين قتاله حتى يفيئ إلى أمر الله كما نص على ذلك القرآن المجيد في سورة الحجرات ولهذا يتعين على الحكمين دعوة معاوية إلى يفيئ إلى أمر الله تعالى ويدخل فيما دخل فيه المسلمون وأما التذرع بالمطالبة بدم عثمان فيمكنه المطالبة بالقصاص من ولي الأمر بعد الدخول فيما دخل فيه المسلمون، ثم إنَّ كونه ولياً لدم عثمان كما يزعم – رغم أنَّ أبناء عثمان على قيد الحياة- لا يُصحح له التمرُّد والخروج على الخليفة الشرعي كما لا يُصحِّح للحكَم – ابن العاص- أن يجعله خليفة على المسلمين رغم أنَّ مقتضى صريح القرآن هو أنَّه من البغاة وقد تأكَّد ذلك عند عامَّة المسلمين بعد مقتل عمار الذي صحَّ عندهم قاطبة عن الرسول الكريم (ص) أنَّ عمار تقتله الفئة الباغية(31) فكيف يكافئ الباغي بجعله خليفة للمسلمين، لذلك تفطن الناس إلى تجاوز ابن العاص للصلاحية التي أعطته إيَّاه وثيقة التحكيم وأجمعوا على بطلان ما أعلن عنه من جعل معاوية خليفة للمسلمين. وكذلك فإنَّ ما أعلن عنه أبو موسى الأشعري باطلٌ لكونه على خلاف ما نصَّت عليه وثيقة التحكيم من لزوم الخروج بحكم يتوافق عليه الحكمان . وأدرك أنه أخفق فيما رامه وأنَّه خدع بأقبح ما تكون عليه الخديعة الغدر فغضب وجأر أمام الملأ بتوصيف عمرو بن العاص بالغادر الفاجر وأنَّ مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فردَّ عيه عمرو بن العاص أنَّ مثله كمثل الحمار يحمل أسفار وتبيَّن للمسلمن أنَّ عمرو بن العاص ومن يمثلُه لم يكونا صادقين في دعوى الرجوع لكتاب الله وحقن الدماء وإلا فنقضه للاتفاق وتعيينه معاوية خليفةً وهو يُدرك أن ذلك لن يرضي الفريق الآخر، يؤكد أنَّهم لم يكونوا يبتغون من وراء مهزلة التحكيم سوى الكسب للوقت واستجماع القوة للعودة إلى الحرب والبغي على الخلافة الشرعيَّة .
تعليق أمير المؤمنين (ع)
من كلام لأمير المؤمنين (ع) بعد ما بلغه من أمر الحكمين- أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ – تُورِثُ الْحَسْرَةَ وتُعْقِبُ النَّدَامَةَ – وقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِه الْحُكُومَةِ أَمْرِي – ونَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي – لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ – فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ والْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ – حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِه وضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِه – فَكُنْتُ أَنَا وإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ – أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
أمرتُكمُ أمري بمنعرجِ اللِِّوى * فلم تستبينوا النصحَ إلاّ ضحى الغدِ (32)
وهنا نجيب على بعض التساؤلات التي قد تطرأ في الذهن حين الوقوف على قضيَّة التحكيم:
لماذا قبل أمير المؤمنين (ع) بالتحكيم:
التساؤل الأول: هو أنَّه لماذا قبل أمير المؤمنين (ع) بالتحكيم رغم أنَّه سيفوِّت عليه الحسم القريب للمعركة وكيف يقبل التحكيم مع فئةٍ باغية ولم تكن صادقة – بحسب ما صرَّح كثيراً- في زعمها القبول بما يحكم به القرآن المجيد ؟
والجواب أنَّ الإمام (ع) لم يقبل بالتحكيم وبإيقاف الحرب كما اتَّضح ذلك جليَّاً مما تقدَّم وكان (ع) قد استفرغ وسعه في إقناع جيشه أنَّ رفع المصاحف من قبل جيش معاوية والدعوة إلى تحكيم القرآن لم يكن سوى خديعة يبتغي منها معاوية ومن معه إيقاف الحرب مؤقتاً لتفويت الحسم القريب وكسب الوقت لاستجماع قوته التي أوشك على الانهيار الكامل وأكَّد لهم بما يقطع العذر ويقيم الحجة البالغة أنَّ معاوية ومن معه ليسوا بأهل دين ولا أهل قرآن فليسوا صادقين فيما يزعمونه من القبول بتحكيم القرآن والانضباط بضوابطه وحدوده لكنَّهم أبوا إلا القبول بإيقاف الحرب واللجوء إلى التحكيم وهدَّدوا باعتزال أمير المؤمنين(ع) إن لم يقبل بإيقاف الحرب واللجوء إلى التحكيم بل هدَّد أصحاب الجباه السود والذين يصل عددهم -بحسب بعض النصوص- إلى عشرين آلف مقاتل بقتل أمير المؤمنين (ع) إنْ يعلن عن القبول بإيقاف الحرب والتحكيم، وهدَّد الأشعث بن قيس ومعه اليمانيَّة بقتل أمير المؤمنين أو تسليمه لمعاوية، فأكثر من كان في جيش أمير المؤمنين كان رأيهم إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم كما اتَّضح ذلك من النصوص التي تقدَّمت وممَّا لم نذكره من النصوص ما أورده في كتاب وقعة صفّين قال: جاء عديّ بن حاتم يلتمس عليّاً، ما يطأ إلاّ على إنسان ميت أو قدم أو ساعد، فوجده تحت رايات بكر بن وائل ، فقال : يا أمير المؤمنين ! ألا نقوم حتى نموت؟ فقال عليّ: ادنُهْ ، فدنا حتى وضع أذنُه عند أنفه، فقال : ويحك ! إنّ عامّة مَن معي يعصيني ، وإنّ معاوية فيمن يُطيعه ولا يعصيه” فهذا النص كالنصوص التي تقدَّمت تؤكد أنَّ أكثر من كان في جيش الإمام (ع) كان رأيهم إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم، ولو أمرهم بالنفير والاستمرار في الحرب لما استجابوا له كما يعبر عنه قوله لعدي ابن حاتم : “إنّ عامّة مَن معي يعصيني”(33)
وقد نقلنا قوله مخاطباً من كان في جيشه : “لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً – وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً، وقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ ولَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ” وفي ذلك أبلغ تعبير عن تمردهم على الإمام(ع) فهم لم يحجموا عن القتال وحسب بل عملوا جاهدين على إلجاء الإمام (ع) على اتخاذ الموقف الذي يرتؤونه وهذا هو معنى قوله (ع) : “لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً، وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً” فلقد بلغت بهم الوقاحة إلى العمل على فرض رأيهم على الإمام (ع) فلم يكن أمام أمير المؤمنين (ع) سوى خيارين الخيار الأول هو النزول عن رأيهم ورغبتهم بعد إقامة الحجة عليهم وتعريفهم بخطأ رأيهم والعواقب الوخيمة المترتبة على اعتماد هذا الرأي، والخيار الثاني هو الإصرار على موقفه الرافض لإيقاف الحرب، ونتيجة هذا الخيار الحتميَّة هو الدخول في معركة دامية مع الفريق المصر على إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم ومن غير المحرز أنَّه يستطيع بمن معه أن يحسم المعركة بل المرجَّح أن يكون الحسم لصالح المنشقين عن جيشه لكونهم الأكثر ولو فرض أنَّ المعركة لن تحسم لصالحهم لافتراض أن بعض المنشقين لن يشترك في الحرب ضد أمير المؤمنين(ع) فإنَّ الأثر المترتب على الاقتتال واعتزال فريق واسع من جيشه هو ضعف من يتبقى معه من جيشه بحيث يصبح من الميسور على معاوية حسم الحرب لصالحه وقد يستثمر معاوية الاقتتال في صفوف جيش أمير المؤمنين (ع) فينضم إلى الفريق المنشق فيصبح الفريق الذي مع أمير المؤمنين (ع) في الموقع الأضعف بل تشير بعض النصوص إلى أن تشخيص أمير المؤمنين (ع) للواقعة هو أن الإصرار على استمرار الحرب وعدم النزول رأي أكثر مَن في جيشه سينتهي إلى تصفية الفريق الذي سيكون معه عن آخرهم .لذلك كان الخيار الموافق لمقتضيات الحكمة هو القبول بالتحكيم وإيقاف الحرب دفعاً لمفسدة أعظم فالقبول بالتحكيم وإن كان خياراً صعباً إلا أنَّه يبقي مساحة يمكن معها القضاء ولو بعد حين على فتنة الفئة الباغية، وذلك بأن يلتفت جيشه إلى خطأ خياره ويتبيَّن له أن معاوية ومن معه لم يكونوا صادقين في الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى وهذا ما وقع بعد فشل الحكمين فقد تبين للجميع أنَّ خيار التحكيم كان خاطئاً، نعم نشأت مشكلة أخرى وهو مشكلة الخوارج واضطر الإمام (ع) لمحاربتهم إلا أن ذلك وقع بعد تقلُّص عددهم فصار من الميسور القضاء على شوكتهم وتمكن أمير المؤمنين (ع) أن يدعو مجدداً لمحاربة الفئة الباغية بعد تبيُّن غدرهم ونقضهم لوثيقة التحكيم وإشاعتهم للفساد والقتل والإرهاب للعديد من الحواضر الإسلاميَّة، وكان من المفترض أن يستأنف الإمام الحرب على الفئة الباغية لولا تقاعس جيشه وتباطئهم في التعبئة واستشهاده قبل استكماله لتعبئة جيشه.
كيف انطلت خدعة رفع المصاحف على جيش أمير المؤمنين(ع):
التساؤل الثاني: كيف انطلت خدعة رفع المصاحف على جيش أمير المؤمنين(ع) فلم يتفطنوا أنَّها مكيدة يبتغي معاوية من ورائها إيقاف الحرب ليتهيأ له استجماع قوَّته التي أوشكت على الانهيار؟
الجواب: إنَّ تبنِّي الكثير أو أكثر مَن في جيش أمير المؤمنين (ع) لإيقاف الحرب بعد رفع المصاحف لم ينشأ عن عاملٍ واحد بل نشأ عن عوامل عدَّة، فلم يكن يخفى على جميع من تبنَّى إيقاف الحرب أنَّ رفع المصاحف كان مكيدةً بل كان الكثير منهم يُدرك ذلك، فهم وإن اتَّفقوا على تبنِّي إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم بعد رفع المصاحف لكنَّ باعثهم على ذلك مختلف، ففيهم – ولعلَّهم الأكثر- قد سأم الحرب ويرغب في العافية، فكان رفع المصاحف والدعوة إلى التحكيم فرصةً تذرَّعوا بها للضغط في اتِّجاه إيقاف الحرب، فكانوا يُدركون أنَّ رفع المصاحف مكيدة ولكنَّه موافق للهوى ولما يرغبون فيه من إيقاف الحرب التي أكلتهم على حدِّ تعبيرهم .
وقد صرَّح الإمام (ع) – وهو العارف بمخابرهم- عن مخبوء سريرة هؤلاء في العديد من النصوص منها قوله (ع): “أيّها الناس ! إنّه لم يزل من أمركم ما أُحبّ حتى قرحتكم الحرب، وقد والله أخذتْ منكم وتركتْ، وإنّي كنت بالأمس أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وقد أحببتم البقاء”(34)
ومنها قوله (ع):” إنّه لم يزل أمري معكم على ما أُحبّ إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذتْ منكم وتركت، وأخذتْ من عدوّكم فلم تترك، وإنَّها فيهم أنكى وأنهك. ألا إنِّي كنتُ أمسِ أمير المؤمنين، فأصبحتُ اليوم مأموراً، وكنتُ ناهياً فأصبحت منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أنْ أحملكم على ما تكرهون” (35)
فمثل هذه النصوص تكشفُ عن أنَّ الباعث الحقيقي لهؤلاء للضغط في اتِّجاه إيقاف الحرب هو حبُّ العافية والرغبة في البقاء والسلامة وأنَّ الدعوة إلى الإنابة والقبول بالرجوع إلى كتاب الله ماهي إلا ذريعة تذرعوا بها للظفر بهذه الرغبة وقد صرَّح بعضهم بالباعث الحقيقي لتبنيهم القبول بإيقاف الحرب كما في النص الذي تقدَّم نقله: “وقام الناس إلى عليٍّ فقالوا: أجِب القوم إلى ما دعوك إليه؛ فإنّا قد فُنينا . . . أكلتنا الحرب وقُتلت الرجال، وقال قوم: نُقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمسِ. ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس، ثمّ رجعوا عن قولهم مع الجماعة، وثارت الجماعة بالموادعة(36).
ثم إنَّ ثمة عدداً وازناً في جيش أمير المؤمنين(ع) لم يكونوا أساساً يؤمنون بصوابية الحرب وكانت مشاركتهم إمَّا ناشئة عن العصبية والدخول فيما دخلت فيه قبائلهم أو ناشئة عن الخشية من اتِّهامهم بالتمرُّد على الخليفة الشرعي الذي في عنقهم بيعة شرعية له، فكان في رفع المصاحف فرصة للاستراحة من هذه الحرب، ويؤكد ذلك قولهم عن مالك الأشتر أنَّه هو من سعَّر الحرب وكذلك يؤكده رفضهم لاختياره حكماً وتبرير ذلك أنَّه سيختار العودة للحرب، وذلك يؤشر أنَّهم لم يكونوا يؤمنون بشرعية الحرب وأنَّها امتثال لأمر الله بمحاربة الفئة الباغية. وكذلك يُؤكده تبريرُهم لاختيار أبي موسى الأشعري وأنَّه كان ينهانا عمَّا وقعنا فيه فكان ينهى عن الحرب ويعتبرها فتنة ويأمر باعتزال الحرب وأما أمير المؤمنين (ع) فيعتبرها امتثالاً لأمر الله بمحاربة الفئة الباغية فهؤلاء لم يكونوا يؤمنون بشرعيَّة الحرب على معاوية لذلك كان رفع المصاحف فرضة للاستراحة من الحرب.
وثمة عددٌ استطاع معاوية استمالتهم وعلى رأسهم الأشعث بن قيس والذي كان زعيماً ليمانيَّة العراق وكان له ومن معه أبلع الأثر في إشاعة الفوضى والإرجاف والاضطراب في أوساط جيش أمير المؤمنين (ع) وكان له أبلغ الأثر في التحريض على الاستجابة للدعوة إلى التحكيم وانضمَّ إلى جماعة القراء أصحاب الجباه السود وهو ليس منهم ولكن رأيهم كان موافقاً لهواه وموافقاً لمقتضيات الممالئة لمعاوية فانضم إليهم وعمل جاهداً على تثبيتهم على رأيهم، وقد بلغت به الوقاحة بعد أن وجد الأرضية سانحة لتهديد أمير المؤمنين (ع) بالقتل أو إسلامه لمعاوية، وهو ما يعبِّر عن سعة القاعدة التي يستند إليها وإلا فهو أجبن من أن يتجاسر بذلك.
وأمَّا جماعة القرَّاء أصحاب الجباه السود -والذين صار الكثير منهم بعد ذلك من الخوارج- فاختلط عليهم الأمر وانطلت عليهم المكيدة – وذلك لجهلهم وافتقادهم للبصيرة وعدم ثقتهم بإمامهم، وساعد على تصلُّبهم ما انطوت عليه سرائرهم من العجب بالنفس وتوهمهم أنَّهم من ذوي البصيرة وأنَّهم الأكثر تقوى وورعاً وحرصاً على حقن الدماء لذلك لم يستوعبوا النصيحة لاعتقادهم أنَّ الحق هو ما اختاروه.
لماذا لم يستثمر الإمام(ع) فرصة توبة القرَّاء:
التساؤل الثالث: بعد التوقيع على وثيقة التحكيم تبيَّن للقراء أصحاب الجباه السود أنَّهم أخطأوا في موقفهم وحملهم أمير المؤمنين (ع) على التوقيع على الوثيقة لذلك جاءوا إلى أمير المؤمنين (ع) وأقروا بخطئهم وأعلنوا توبتهم ودعوا أمير المؤمنين (ع) إلى نقض الوثيقة والعودة لحرب معاوية ومن معه فلماذا لم يستثمر أمير المؤمنين (ع) هذه الفرصة السانحة ويعود إلى محاربة الفئة الباغية وبذلك يتهيأ له القضاء على الفئة الباغية وفي ذات الوقت يسلب من القراء الذريعة التي تذرعوا بها للانشقاق عن جيش أمير المؤمنين(ع) والذي كان السبب في نشوء مشكلة الخوارج؟
الجواب: إنَّ أمير المؤمنين (ع) لم يكن قائداً برجماتيَّاً يبحث عن الفرص السانحة لاستثمارها حتى وإن كانت منافية لمقتضيات الشريعة والقيم الدينيَّة، فأمير المؤمنين (ع) كان من أئمة الدين الحريصين على حماية الشريعة وعدم التجاوز لحدودها أيَّاً كان الثمن، ولذلك لم يكن بوسعه القبول بنقض معاهدة كان قد تعهد بالالتزام بها والعمل بمقتضياتها فإنَّ نقض العهود والمواثيق لا يسوغ شرعاً حتى مع الكفار المجاهرين بالكفر وهذا الأمر من واضحات الشريعة وأولى الناس برعايته هو إمام الدين فلم يكن يسعه التجاوز لحدود الدين رعاية لمصالح اجتهاديَّة . هذا أولاً.
وثانياً: إنَّ العودة لمحاربة الفئة الباغية لا ينحصر طريقه بنقض وثيقة التحكيم والذي هو محظور شرعاُ، فالإمام (ع) كان على يقين أنَّ معاوية ومن معه لم يكونوا صادقين في الرجوع إلى كتاب الله تعالى، فليسوا أهل دين ولا أهل قرآن كما أفاد (ع) ولو صدقوا فإنَّ النتيجة هي تركهم للبغي ودخولهم فيما دخل فيه المسلمون وبذلك تنتهي مشكلة الفئة الباغية دون الحاجة للرجوع إلى الحرب إلا أن الإمام (ع) كان على يقين أنَّهم غير صادقين وأنهم سينقضون المعاهدة وأن الحكمين أو أحدهما سوف لن يلزما بمقتضيات الوثيقة وبذلك يصبح الإمام (ع) في سعة من جهة الالتزام بالمعاهدة بعد نقضها من قبلهم وعليه يتهيأ له العودة لمحاربة الفئة الباغية دون محذور التجاوز لحدود الشريعة . فكان على هؤلاء القراء الذين أقروا بخطئهم الوثوق بحكمة إمامهم وبصيرته التي من المفترض أن تكون قد تبينت لهم بعد فوات الفرصة الأولى ولكنهم لجهلهم وفرض إعجابهم بأنفسهم أرادوا الخروج من موبقة بالوقوع في موبقة أخرى. ولا يسع الإمام (ع) المجاراة لهم وهو قادر على الامتناع.
ثم إنَّه مَن يضمن لو قَبِل بما دعا إليه القرَّاء من نفض المعاهدة أنْ لا ينشقَّ فريقٌ آخر مِن جيشه بذريعة النقض للمعاهدة، فيكون أثرهم على فساد جيشه وتمزُّقه أبلغ وذلك لقوَّة حجَّتهم، وكذلك فإنَّ نقض المعاهدة يُعطي لمعاوية حجَّةً يتمكَّنُ من توظيفها لصالحه فإنَّه سيستثمر ذلك دون ريب للإرجاف وسط صفوف جيش أمير المؤمنين (ع) خصوصاً وأن في جيشه عدداً ليس بالقليل من الممالئين لمعاوية، وكذلك فإنَّ معاوية سوف يستثمر نقض الإمام (ع) للمعاهدة في تأليب المسلمين على أمير المؤمنين (ع) كما أنَّ نقض المعاهدة سيمنح معاوية ذريعةً يتوسل بها للتغطية على بغيه وتثبيت المشككين في جيشه على موقفهم.
فدعوة القراء أمير المؤمنين (ع) لنقض وثيقة التحكيم والعودة للحرب لم تكن فرصة بل سيكون الأثر المترتب عليه أسوأ من التريث وانتظار ما سوف تتمخض عنه مفاوضات الحكمين والتي لم يشك الإمام (ع) أنَّها ستفشل وستفضي في المآل إلى نقض الحكمين لوثيقة التحكيم فيكون الإمام (ع) حينذاك في سعة من جهة العودة لمحاربة الفئة الباغية .
جوابٌ آخر:
ثم إن هنا أمراً تجدر الإشارة إليه وهو أنَّ القرَّاء أصحاب الجباه السود -والذين صاروا بعد ذلك خوارج – كان شرطهم في العودة للحرب بعد اعترافهم بحطئهم هو أن يقرَّ أمير المؤمنين (ع) بأنَّه أخطأ في القبول بالتحكيم وأنَّ عليه أن يتوب عن ذلك كما تابوا !!
وهذا ما لا يسع الإمام (ع) فعله فهو لم بخطأ فكيف يقرُّ بخطأ لم يقع منه؟! فهو إنَّما قبل بالتحكيم بعد إلجائهم له على القبول عن غير رضىً بعد بالغ في نصحهم وتعريفهم بخطأ رأيهم فأبوا إلا القبول بالتحكيم فاستجاب على مضضٍ دفعاً لمفسدة أعظم وهي انهيار جيشه واقتتاله في ساحة صفين مما سيتيح لمعاوية الإجهاز عليه بيسر، ثم إنَّ الإمام (ع) بعد قبوله على مضضٍ بالتحكيم أصرَّ على أن يكون الممثل عنهم عبد الله بن عباس فهو الأجدر بهذه المهمة إلا أنَّهم أبو إلا اختيار أبي موسى الأشعري المناوئ لأمير المؤمنين (ع) والفاقد للأهليَّة فاستجاب لهم كارهاً بعد المبالغة في تحذيرهم وتحميلهم تبعات اختيارهم، فهو لم يخطأ بل كانت استجابته في مثل الظرف الذي فرضوه عليه بجهلهم وعنادهم هو المناسب لمقتضيات الحكمة .
فمطالبتهم له بالإقرار أنَّه (ع) أخطأ كما أخطأوا وقاحةٌ تُضاف إلى وقاحةِ إلجائه على القبول بالتحكيم، ثم إنَّه لو قبل بالإقرار بالخطأ والحال أنَّه لم يُخطأ ويعرف عامَّة جيشه أنَّه لم يخطأ لوضوح موقفه من التحكيم ومبالغته في التحذير من اتِّخاذ هذا الموقف، فلو قبل بالإقرار بخطأٍ لم يقع منه لكان ذلك موجباً لتزلزل مصداقيته واتِّهامه بالمصانعة على أمرٍ باطل . حرصاً على استرضاء جماعة أبرز ما تتَّسم به هو الهمجية، ثم إنَّ مصانعة هذه الفئة الهوجاء والتي امتلئت جوانحها بالعجب والشعور بالتميُّز على سائر المسلمين بالتقوى والورع سيُفضي إلى إغرائها بارتكاب المزيد من الحماقات بتوهُّم أنه الحق الذي يجب فرضه على الناس تحت شعار الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمصانعة لمثل هذه الفئة البائسة والمتوحشة لن ينتهي عند حدٍّ، ولهذا لابد من قطع الطريق عليهم قبل أنْ تقوى شوكتهم فيقودوا الأمة بتهورِهم إلى الهاوية. وهذا ما فعله أميرُ المؤمنين (ع) فقد صارحهم أولاً بمرِّ الحق وعرَّفهم بجهلهم وسفاهة رأيهم وبعد أن تمادوا في غيِّهم وعاثوا فساداً في الأرض نابذهم بالحرب في النهروان، وقال (ع) حينها:” أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، ولَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، واشْتَدَّ كَلَبُهَا..” (37)
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
————————
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.