جاء في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام (لَوْلاَ أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ، لَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ كُفْؤٌ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ، مِنْ آدَمَ فَمَا دُونَهُ) (1)
روى الشيخ الطوسي حول زواج أميرالمؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام : (سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: أتَيْتُ رسول الله، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَ مَا حَاجَتُكَ قَالَ: فَذَكَرْتُ لَهُ قَرَابَتِي وَ قِدَمِي فِي الْإِسْلَامِ وَ نُصْرَتِي لَهُ وَ جِهَادِي، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، صَدَقْتَ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ مِمَّا تَذْكُرُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاطِمَةَ تُزَوِّجُنِيهَا فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّهُ قَدْ ذَكَرَهَا قَبْلَكَ رِجَالٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهَا، فَرَأَيْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهَا، وَ لَكِنْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ رِدَاءَهُ وَ نَزَعَتْ نَعْلَيْهِ، وَ أَتَتْهُ بِالْوَضُوءِ، فَوَضَّأَتْهُ بِيَدِهَا وَ غَسَلَتْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَعَدَتْ، فَقَالَ لَهَا: يَا فَاطِمَةُ. فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ، حَاجَتَكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَنْ قَدْ عَرَفْتَ قَرَابَتَهُ وَ فَضْلَهُ وَ إِسْلَامَهُ، وَ إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُزَوِّجَكِ خَيْرَ خَلْقِهِ وَ أَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، وَ قَدْ ذَكَرَ مِنْ أَمْرِكِ شَيْئاً فَمَا تَرَيْنَ فَسَكَتَتْ وَ لَمْ تُوَلِّ وَجْهَهَا وَ لَمْ يَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَرَاهَةً، فَقَامَ وَ هُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، سُكُوتُهَا إِقْرَارُهَا، فَأَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، زَوِّجْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَهَا لَهُ وَ رَضِيَهُ لَهَا. قَالَ عَلِيٌّ: فَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ) (2) يوم الأول من شهر ذي الحجة، يوم زواج النورين. من المفيد أن نعلم معنى الكفاءة بين الزوجين ومصاديقها حسب الآيات والروايت الشريفة.
معنى الكفاءة
الكفاءة مصدر من (كفؤ) ومعناها اللغوي كما جاء في المعجم الوسيط (حالة يكون بها شيءٌ مكافئاً اَي: مساوياً لشيءٍ آخر و المماثلةُ فى القوة و الشرف. و منه الكفاءَة فى الزَّواج: أَن يكون الرجل مساوياً للمرأَة فى حَسَبها و دِينها و غير ذلك.) (3) وفي لسان العرب (منه الكفَاءةُ في النِّكاح، و هو أَن يكون الزوج مُساوياً للمرأَة في حَسَبِها و دِينِها و نَسَبِها و بَيْتِها و غير ذلك.. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: الحمدُ لِلَّهِ كِفاء الْوَاجِبِ أَي قَدْرَ مَا يَكُونُ مُكافِئاً لَهُ..) (4)
فالكفاءة في معناها الأصلي هي المساواة. لكن جهات المساواة تختلف بحسب الموارد. ففي علم الطب، تكفي الكفاءة والمساواة مع باقي الأطباء في الأهلية بقيام المسائل الطبية وعلاج الناس، وفي العمل يجب أن يكون العامل مساويا مع باقي العمّال في المهارة والبراعة والحذاقة. لكن السؤال الأساسي في الزواج وتشكيل الأسرة هو أنه ما هي الجهات التي يجب أن يكون الزوجين مساويين فيها حتى يكونا متكافئين ومتساويين بحسبهما؟ فيجب أن نعلم ما هي مصاديق الكفاءة؟
مصاديق الكفاءة
مصاديق الكفاءة في العرف واللغة
عندما نراجع الكتب اللغوية، نفهم أن المراد من الكفاءة والمساواة في الزواج بين اللغويين والعرف، هي المساواة بين الزوجين في الدين والحسب والنسب. كما شاهدنا تصريح الوسيط ولسان العرب. فيكفي في الزوجين أن يكونا مسلمين وأن يكونا متساويين في أحسابهما بحيث لايكون واحد منها غنيا وذي حسب رفيع والآخر فقير بشدة وذي حسب وضيع. وهذا واضح حينما نراجع كلام لسان العرب حيث يضيف (في حَسَبِها و دِينِها و نَسَبِها و بَيْتِها و غير ذلك) (5)
مصاديق الكفاءة في الآيات الشريفة
1) المساواة في أصل الدين
عندما نراجع الآيات الشريفة، نفهم أن الجهة المهمة في الكفاءة المعتبرة في الزواج من قبل الله سبحانه وتعالى هي أصل الدين والمذهب في المرحلة الأولى. وورد الكفاءة في أصل الدين في الآيات الشريفة وإحداها هي : (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (6) حيث يمنع الله بشكل صريح زواج المؤمنة بالمشرك وبالعكس.
2) المساواة في التقوى والديانة
إن الهدف الأصلي من الزواج هي المودة والرحمة حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (7) فإذا كان الزوجان متساويين في الديانة تحصل هذه المودة والرحمة بينهما بإذن الله سبحانه وتعالى. حيث يقول الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (8). فالكفاءة في التقوى والديانة أيضا من الأمور المؤكدة عليها في الزواج. لا تدل هذه الآية على ما ذكر
3) عدم إعتبار الحسب والنسب
يظهر من بعض الآيات الشريفة أن المساواة بالحسب والنسب ليس شيئا يهتمّ به الدين والشريعة الإسلامية. لأن الله سبحانه وتعالى يقول حول الزواج وحكمته (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (9) فهذه الآية تبيّن لنا بشكل صريح أن التفاضل ببين الناس في نظر الشريعة ليست بالمال والغناء والثروة. بل إن السبب الوحيد في التفاضل بين الناس هو التقوى والورع. فإذا كان الزوجان متساويين في الديانة والتقوى والأمور المعنوية، فلاتفاضل في الحقيقة بينهما. التقوى والأمور المعنوية لايوجد لها مقياس
4) الكفاءة في طيب النفس
الكفاءة في طيب النفس بين الزوجين ورد في القرآن حيث يقول الله (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (10) فهذه الآية تقول لنا إنّ السبب المهم الذي يجب على الناس التوجه إليه في معاشراتهم وتزويجهم، هو الديانة طيب النفس. فلاينبغي للطيب أن يتزوج بالخبيثة ولاللطيبة أن تتزوج بالخبيث.
فالمسألة الأساسية التي ذكرتها الآيات الشريفة، هي المساواة في الدين والديانة والتقوى وطيب النفس.
مصاديق الكفاءة في الروايات الشريفة
ورد تأكيد جميل على الكفاءة والمساواة بين الزوجين في الروايت حيث ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (أَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ ، وَانْكِحُوا فِيهِمْ ، وَاخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ) (11)
1) الكفاءة في الديانة والأمانة
عندما نراجع روايات أهل البيت عليهم السلام نرى أنهم أيضا إهتموا بجهة الديانة في الزوجين حتى يكونا متساويين في الزواج. حيث ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ جَاءَكُمْ خَاطِباً تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَ أَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاّٰ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسٰادٌ كَبِيرٌ) (12) فذكر النبي صلى الله عليه وآله، السلامة الدينية والعقائدية والأمانة في الشاب الخاطب وأكّد على هذه الخصال.
2) الكفاءة في اليسار المالي
جاء في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام حول الكفاءة بين الزوجين فقال عليه السلام (الكفو أن يكون عفيفا وعنده يسار.) (13) فذكر الإمام عليه السلام إضافة إلى العفة والديانة، اليسار المالي. لأن واقع الحال أنه إذا لم يكون الزوجان قريبين بحسب الحالة المالية والمادية، بحسب العادة لايمكنهما التقرب وإيجاد رباط قوي بينهما. فالجهة الأساسية في الكفاءة هي الديانة. لكن المسائل المادية أيضا من الجهات المعنية في الزواج. فيجب على الزوج أو الزوجة إختيار شريك حياة كفؤ حتى تكون لديهم حياة هنيئة.
الكفاءة بين أميرالمؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام
تظهر الكفاءة الحقيقة بين الزوجين في زواج أميرالمؤمنين بفاطمة الزهراء سلام الله عليهما. حيث إن مقام العصمة العليا الموجودة في سيدة نساء العالمين تقتضي أن لاتتزوج إلا بمعصوم في حدّ عصمتها. لأن ديانتها ومقاماتها المعنوية في حدّ لايوصف حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: (هي الصديقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى) (14)، وعن الإمام العسكري عليه السلام: (نَحْنُ حُجَجُ اللَّهِ عَلى خَلْقِهِ وَ جَدَّتُنا فاطِمَةُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْنا) (15)، فإذا كانت هي في هذا المقام الرفيع، يجب أن يكون زوجها أميرالمؤمنين عليه السلام الذي قال النبي صلى الله عليه وآله في حقه: (لَوِ اِجْتَمَعَ اَلنَّاسُ عَلَى حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَا خَلَقَ اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ اَلنَّارَ ) (16).
النكتة الحائزة للأهمية أنه حين أتى أميرالمؤمنين عليه السلام خاطبا فاطمة الزهراء سلام الله عليها، لم يكن غنيا. فعيرت بعض النساء سيدة نساء العالمين بفقره. فقال لها النبي صلى الله عليه وآله: (أما ترضَيْن يافاطمة أني زوّجتُك أقدمَهم سِلْماً ، وأكثرَهم علماً ، إنّ اللّه اطَّلع إلى اهل الأرض اطلاعةً فاختارمنهم أباك فجعله نبيّاً ، واطّلع إليهم ثانيةً فاختارمنهم بَعْلَك فجعله وصيّاً ، وأوحى إليَّ أن أًنكحَكِ إيّاه. أما عَلِمْتِ يا فاطمة أنّك بكرامة اللّه إياك زوّجْتُكِ أعظمَهم حلماً ، وأكثرهَم علماً ، وأقدمَهم سِلماً. فضَحِكتْ فاطمة واستبشرتْ) (17) فلأجل هذا قال الإمام الصادق عليه السلام: (لَوْلاَ أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) ، لَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ كُفْؤٌ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ، مِنْ آدَمَ فَمَا دُونَهُ) فهذه حقيقة هي الكفاءة بين الزوجين والحياة الأبدية.
1) البرهان في تفسير القرآن (للسيد هاشم البحراني)/ المجلد: 5 / الصفحة: 468 / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت / الطبعة: 2.
2) الأمالي (للشيخ الطوسي) / الصفحة: 39 / الناشر: دار الثقافة – قم / الطبعة:1.
3) المعجم الوسيط (لمحمد علي النجار) / المجلد: 2 / الصفحة: 791 / الناشر: دار الدعوة – استانبول / الطبعة: 1.
4) لسان العرب (لإبن منظر الأنرصاري) / المجلد: 1 / الصفحة: 139 / الناشر: دار صادر – بيروت / الطبعة: 3.
5) لسان العرب (لإبن منظر الأنرصاري) / المجلد: 1 / الصفحة: 139 / الناشر: دار صادر – بيروت / الطبعة: 3.
6) سورة البقرة / الآية :221.
7) سورة الروم / الآية : 21.
8) سورة الحجرات / الآية: 13.
9) سورة الحجرات / الآية: 13.
10) سورة النور / الآية: 26.
11) الكافي (للكليني) / المجلد: 10 / الصفحة: 591 / الناشر: دارالحديث – قم / الطبعة: 1.
12) مستدرك الوسائل (للحاجي النوري) / المجلد: 14 / الصفحة: 189 / الناشر: مؤسسة آل البيت – قم / الطبعة: 1.
13) تهديب الأحكام (للشيخ الطوسي) / المجلد: 7 / الصفحة: 394 / الناشر: دار الكتب العلمية – تهران / الطبعة: 4.
14) بحارالأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 43 / الصفحة: 105 / الناشر: دار إحياء التراث – بيروت / الطبعة: 3.
15) عوالم العلوم (للإصفهاني) / المجلد: 11 / الصفحة: 1030 / الناشر: مدرسة الإمام الهادي – قم / الطبعة: 1.
16) بحارالأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 39 / الصفحة: 305 / الناشر: دار إحياء التراث – بيروت / الطبعة: 3.
17) الإرشاد (للشيخ المفيد) / المجلد: 1 / الصفحة: 36 / الناشر: مؤسسة آل البيت – قم / الطبعة: 1.
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.