الإشكال في تحديد مَن هي أمُّ السجاد وجوابه
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم وبعد..
ما رأيكم في ما ذكره البعض من إشكال أنَّ زواج الامام الحسين (ع) من شاه زنان أو شهربانويه غير صحيح بدليل أنَّ القصة المشهورة بعد فتح الفرس في حرب القادسية حدث في سنة ١٥ه اي ان عمر الامام الحسين ١٣ سنة وان الامام السجاد ولد 38ه اي بعد ٢٣ سنة من الزواج حسب القصة المذكورة اعلاه؟
الجواب:
لم أجد خلافاً يُذكر بين المؤرِّخين والمحدِّثين في أنَّ والدة الإمام زين العابدين (ع) هي السيدة شهربانويه أو شهربان من بنات يزدجرد وقد تُسمَّى بشاه زنان وقد تمَّسى باسمٍ عربيٍّ كسلافة كما هو المتعارف في الأوساط العربية من تغييرٍ لاسم المرأة أو الرجل الأعجمي إلى اسم عربي، فهذا المقدار وهو كون والدة الإمام زين العابدين (ع) فارسية من بنات كسرى يزدجرد ليس مورداً للإشكال.
نعم وقع الاختلاف في زمن تزوُّج الإمام الحسين (ع) بوالدة الإمام زين العابدين (ع) ويُمكن تصنيف الأخبار في ذلك إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: أفادت أنَّ ذلك وقع في عهد عمر حين جيء بسبي الفرس إلى المدينة وأراد عمر بيعهنَّ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أكرموا كريم كلِّ قوم، فقال عمر: قد سمعته يقول: إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه وإنْ خالفكم؟، فقال له أمير المؤمنين: هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلام ورغبوا في الإسلام.. فرغب جماعةٌ من قريش في أنْ يستنكحوا النساء فقال أمير المؤمنين: هنَّ لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن، ما اخترنه عُمِل به، فأشار جماعة إلى شهربانويه بنت كسرى فخيرت وخوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور، فقيل لها: من تختارين من خطَّابك؟ وهل أنت ممَّن تريدين بعلا؟ -فسكتت، فقال أميرُ المؤمنين: قد أرادتْ وبقيَ الاختيار، فقال عمر: وما علمُك بإرادتِها البعل؟ – فقال أمير المؤمنين (ع): إنَّ رسول الله (ص) كان إذا أتته كريمةُ قومٍ لا وليَّ لها وقد خُطبت يأمرُ أنْ يُقال لها: أنت راضية بالبعل؟ فإنْ استحيتْ وسكتتْ جعلت أذنَها صماتَها وأمرَ بتزويجها، وإنْ قالت: لا، لم يكره على ما تَختاره. وإنَّ شهربانويه أريت الخطاب فأومأتْ بيدها واختارت الحسين بن عليٍّ عليهما السلام، فأُعيد القولُ عليها في التخيير فأشارتْ بيدها وقالت: هذا، إنْ كنت مُخيَّرة، وجعلتْ أمير المؤمنين وليَّها وتكلَّم حذيفة بالخطبة، فقال أمير المؤمنين: ما اسمُكِ؟ – فقالتْ: شاه زنان بنت كسرى، قال أمير المؤمنين: أنت شهربانويه وأختُك مرواريد بنت كسرى؟ – قالتْ: آريه”.
التعليق على الطائفة الأولى من الأخبار:
أورد هذا الخبر صاحبُ كتاب الغارات(1) وورد ما يقربُ منه في الكافي للشيخ الكليني(2) ولو صحَّ هذا الخبر فإنَّه لا يعني أنَّ ذلك وقع في العام الخامس عشر أو السادس عشر من الهجرة بعد الانتصار على الفرس في معركة القادسية، فإنَّ الانتصار على الفرس في هذه المعركة لم ينتج عنه سقوطُ الدولة الفارسية الساسانيَّة وإنَّما أنتج إنهاءَ الوجود الفارسي في العراق، وبقيت الدولةُ الفارسية محتفظة بأكثر الأراضي والمدن الإيرانية وبقي كسرى يزدجرد ملكاً عليها، ووقعت بعد معركة القادسية معاركُ كثيرة امتدَّت إلى ما بعد عهد عمر، وبعد كلِّ انتصار للمسلمين يقتطعونَ جزءً من الأراضي والمدنِ الإيرانيَّة.
هذا وقد نصَّت كتب المؤرِّخين على أنَّ سقوط الدولة الساسانية ومقتل كسرى يزدجرد في مرو وقع بعد فتح خراسان كلِّها وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان وذلك في ولاية عبد الله بن عامر بن كريز نهاية عهد عثمان بن عفان(3).
وعليه لا يُمكن إحراز الوقت الذي جِيءَ فيه بالسبي الذي كان منه بنت كسرى يزدجرد، فلعلَّ ذلك وقع في أواخر عهد عمر بن الخطاب يعني في العام السادس والعشرين من الهجرة. فلو تمَّ ذلك فإنَّ عمْرَ الإمام الحسين (ع) حينذاك قد تجاوز الثانية والعشرين، نعم بناءً على أنَّ زواجه (ع) من بنت يزدجرد وقع في السادس والعشرين من الهجرة هو أنَّه لم يُنجب منها إلا بعد ما يقرب من السبع سنين لو كان مولد الإمام زين العابدين (ع) في الثالث والثلاثين من الهجرة -كما هو قول الواقدي- أو ما يقرب من العشر سنين بناءً على ما هو المشهور من أنَّ مولده كان في الثامن والثلاثين أو قبله بسنتين، وهو وإن كان مستبعداً ولكنَّه لا يقتضي الجزم بعدم مطابقة الخبر للواقع، فأي محذور في أن يتأخَّر انجاب السيِّدة شاه زنان هذه المدَّة.
وممَّا يؤيد أنَّ أسر بنتي يزدجرد لم يقع حين الانتصار في معركة القادسية ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد قال: “ومن كلامه -عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام- وقد سأل شاه زنان بنت كسرى حين أُسرت: “ما حفظت عن أبيك بعد وقعة الفيل؟” قالت: حفظنا عنه أنه كان يقول: إذا غلب الله على أمر ذلت المطامع دونه، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة. فقال عليه السلام: “ما أحسن ما قال أبوك! تذلُّ الأمور للمقادير حتى يكون الحتفُ في التدبير”(4).
فإنَّ وقعة الفيل هي معركة القادسية والخبر ظاهرٌ في أنَّ شاه زنان بقيت مع أبيها بعد هذه الواقعة وهو ما يؤكد أنَّ الأسر لم يقع في العام الخامس عشر من الهجرة.
الطائفة الثانية: من الأخبار أنَّ زواج الإمام الحسين (ع) من والدة الإمام زين العابدين (ع) وقع في عهد عثمان والذي امتدَّ إلى العام الخامس والثلاثين من الهجرة، أورد ذلك الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) قال: حدَّثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا عون بن الكندي قال: حدثنا سهل بن القاسم النوشجاني، قال: قال لي الرضا عليه السلام بخراسان: أنَّ بيننا وبينكم نسبا، قلتُ: وما هو أيُّها الأمير؟ قال: إنَّ عبد الله عامر بن كريز لمَّا افتتح خراسان أصاب ابنتين ليزدجر بن شهريار ملك الأعاجم فبعثَ بهما إلى عثمان بن عفَّان فوهب إحداهما للحسن (ع) والأخرى للحسين (ع) فماتتا عندهما نفساوين، وكانت صاحبة الحسين عليه السلام نفِستْ بعليِّ بن الحسين عليهما السلام ..”(5).
التعليق على الطائفة الثانية من الأخبار:
فلو تمَّ هذا الخبر فإنَّ زواج الإمام الحسين (ع) من بنت كسرى يزدجرد يمكن أن يكون قد وقع في آخر عهد عثمان، ويؤيِّد هذا الخبر ما نسبه أبو نصر البخاري(6) والقاضي النعمان المغربي(7) إلى محمد بن عمر الواقدي: أنَّ عليَّ بن الحسين وُلد سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة وكان عمره الشريف يوم قتل أبوه عليه السلام ابن ثمان وعشرين، وأفاد القاضي: “أنَّ غير الواقدي ذكر أنَّ عليَّ بن الحسين (ع) ولد في أيام عثمان.
الطائفة الثالثة: من الأخبار أنَّ زواج الإمام الحسين (ع) من بنت كسرى يزدجرد وقع في عهد الإمام عليٍّ أمير المؤمنين (ع) أورد ذلك مثل الشيخ المفيد في الإرشاد والقاضي النعمان في شرح الأخبار، قال- الشيخ المفيد- (رحمه الله):”.. والإمام بعد الحسين بن عليٍّ ابنُه أبو محمد عليُّ بن الحسين زينُ العابدينَ صلوات الله عليهم، وكان يكنى أيضاً أبا الحسن، وأمُّه شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى، ويقال إنَّ اسمها (شهربانوا)، وكان أميرُ المؤمنين عليه السلام ولَّى حريثَ بن جابر الحنفي جانباً من المشرق، فبعث إليه بنتي يزدجرد بن شهريار بن كسرى، فنحلَ ابنَه الحسينَ (عليهما السلام) شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين عليه السلام، ونحل الأخرى محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد ابن أبي بكر، فهما اِبنا خالة ..”(8).
التعليق على الطائفة الثالثة من الأخبار:
وهذا الخبر هو الأنسب لما هو المشهور من أنَّ مولد الإمام زين العابدين (ع) وقع في الثامن والثلاثين من الهجرة أو قبله بسنة أو سنتين، بل إنَّ ما عليه المشهور من أنَّ مولده الشريف وقع في الثامن والثلاثين أو يقرب منه يصلح مؤيداً للطائفة الثالثة من الأخبار وهي أنَّ الزواج وقع في عهد الإمام أمير المؤمنين (ع).
وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّ الأخبار وإنْ اختلفت في زمان زواج الإمام الحسين (ع) من بنت كسرى يزدجرد إلا أنَّها متَّفقة على ما عليه المشهور من أنَّ والدة الإمام عليِّ بن الحسين (ع) هي بنت كسرى يزدجرد وليس فيها ما يوجب نفي صحَّة ذلك، فحتى الطائفة الأولى والتي أفادت أنَّ الأسر والزواج وقع في عهد عمر فإنَّها لا تصلح للنفي، وذلك لأنَّها لم تذكر أنَّ الأسر والزواج وقع بعد معركة القادسية كما توهَّم صاحب الإشكال، فلعلَّ الأسر والزواج وقعا في آخر عهد عمر بن الخطاب ومع فرض الاستبعاد لذلك فإنَّ أقصاه نفي صحة الطائفة الأولى ولكنه لا يوجب نفي صحة ما عليه المشهور من أنَّ والدة الإمام زين العابدين (ع) هي بنت كسرى يزدجرد، فمذهب المشهور لا يستند إلى الطائفة الأولى حصراً حتى يكون سقوطها عن الاعتبار موجباً للبناء على سقوط ما عليه المشهور من أنَّ والدة الإمام هي بنت كسرى يزدجرد.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
9 / محرم الحرام / 1446ه
16 / يوليو / 2024م
اكتشاف المزيد من مركز الكوثر الثقافي التعليمي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.