الاسرة

فارس المنبر الحسيني العلاّمة الخطيب السيّد جابر أغائي “قدس سره”

بقلم / أحمد رضـا المؤمن

يُعتبر السيّد جابر أغائي بحق من عمالقة خطباء المنبر الحسيني ، إلاّ أن المتتبع لتفاصيل مسيرة حياته الشريفة فإنه سُرعان ما سيكتشف أن هذه الرجل العملاق من الظلم بحقه وحق التأريخ الإسلامي أن نعرفه بصفة الخطابة والتبليغ الإسلامي دون غيرها .
فقد كان قُدّس سرّهُ يحمل العديد من السمات والمزايا في شخصيته ومسيرة حياته ما جعله في مصاف كبار المفكرين العمالقة في الإسلام إلى درجة جعلت العديد من أكابر الفُقهاء والمفكرين والمؤرخين وعُلماء الإجتماع ورجال السياسة في العالم الإسلامي المعاصر يستشهدون بما أجاد السيّد في تسليط الضوء عليه أو تنبيه المثقف إليه مما قد يخفى من خافيات التأريخ والسياسة التي إشتهر بإمتياز بمدى قُدرته على تمييز هذه النكات والملاحظات والتحليلات العميقة ، وفي مُحاولة لإستكشاف بعض أسباب سمو سيرة ومسيرة هذا الرجل العملاق كما سمّاه أحد الكتاب فإننا يُمكن أن نصل إلى معرفة بعضها والتي منها :
سمو النسب وشرف الحسب :
يُحاسب الله سُبحانهُ وتعالى الإنسان على ما عمل وليس على حسبه ونسبه ، ولكن ذلك لا يعني أن النسب والحسب وطيب المنبت لا يدخل في الموضوع ، فإن لطيب المنبت وطهارة المولد والحضن الكريم للأُسرة التي يتربى فيها الإنسان ويترعرع أكبر الأثر في تأكيد وتحديد إتجاهات الصلاح أو الفساد في نفس وسلوك هذا الإنسان ، والسيّد جابر أغائي هو سليل أطيب الأُسر النجفية عاداتً وسلوكاً وأطهرها منبتاً وأشرفها نسباً وأكرمها حسباً ، فوالدهُ هو العلامة المجاهد الخطيب السيّد كاظم أغائي “قده” كان من الأدباء وخطباء المنبر الحسيني ومن المجاهدين ضد الإحتلال والإستعمار الإنجليزي وقاتل ضدهم مدة طويلة حتى إندلاع ثورة العشرين ثُم إستقلال وإستقرار العراق عام 1921م ، وكان من كبار الشخصيات وأشرفها آنذاك ، أما جده فهو حجة الإسلام والمسلمين السيّد جواد المعروف بالبهبهاني والذي كان من الصُلحاء الأتقياء الوجهاء العلماء الذين يُشار إليهم بالبنان في مدينة النجف الأشرف ، وكذا حال جميع بقية آباءه وأجداده فهُم ما بين عالم أو فقيه أو خطيب أو مُجاهد أو شريف قومه أو يجمع ما بين هذا كله ، فالسيّد جابر أغائي ينتمي إلى أسرة السادة آل الغريفي الموسوي واسعة الإنتشار وجليلة القدر برجالاتها الذين سادوا العالم الإسلامي في كل العصور والدهور .
وطبعاً فإن مثل هذه الميزة في شخصية السيّد الأغائي توجد ثقةً وإرتياحاً وتقارباً روحياً وفكرياً بين المجتمع المتلقي وشخصيّة السيّد ، فالمجتمع النجفي بالأخص يُعتبر من المجتمعات المعقدة والمتشددة مع من يُريد الدخول في قلوب أبناءها ، ولكي يتمكن من ذلك ينبغي على من يُفكر أن يبرز أو يتفوق أو يمتاز في مثل هذا المجتمع فإنه لا غنى لهُ عن أصل مُتميز بالجهاد أو العلم أو الوجاهة الإجتماعية المحترمة وهي أمور كانت أسرة السيّد جابر بالإضافة إلى مسيرته وسُمعته الطيبة مكنته من التمكن وبجدارة من قلوب أبناء هذه المدينة العريقة ومن ثُم مؤسساتها العلمية والدينيّة والفكرية ليتجلى بعدها عملاقاً يجلّه المجتمع أينما حل ورحل .
شجاعة المواقف السياسيّة والإجتماعية :
هذا الرجُل كان من الشجاعة والجرأة إلى درجة أنهُ أصبح حديث الناس ومضرب أمثالهم في مواقفه السياسية والعقائدية بوجه السلطات البعثية الكافرة أو الشخصيات الطاغوتية بإختلاف عناوينها وأماكن تواجدها . فكانت لهُ صولات وجولات يُهاجم فيها زُعماء الدول الفاسدين وفي مقدمتهم صدام الهدام ، وفي بداية أيام الحرب التي شنها الطاغية صدام المقبور على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران إخترقت الطائرات الصهيونيّة الأجواء العراقيّة و قصفت المفاعل النووي العراقي و لم تكتشفها حينها رادارات الآواكس الجاثمة على الأراضي السعوديّة ، عندها إرتقى السيّد جابر المنبر في مملكة البحرين في مجلس يضم حوالي إثني عشر ألف مُستمع جالس بين يديه أيام العشر الأولى من المحرم وقال : (إن رادارات الآواكس عوراء لا ترى الطائرات الإسرائيليّة !! وإنّما نُصبت لرؤية ومُراقبة السبحة والتُربة ومفاتيح الجنان !!) قالها بإسلوب ساخر ولباقة مُدهشة أثارت الجمهور وجعلته يتموّج إعجاباً وذهولاً بهذه الجرأة والشجاعة والصراحة رغم الظروف السياسيّة الخطيرة والحرجة التي كانت تمُر بها المنطقة آنذاك .
وفي نهاية السبعينيات من القرن الماضي في عهد حكومة حزب البعث الكافر برئاسة الناصبي أحمد حسن البكر تناقلت الناس أقوالاً وَرَدَت على لسان المقبور المدعو خير الله طلفاح (خال الطاغية المجرم صدام الهدام ووالد زوجته) يَنتقص فيها من الشيعة وفي أكثر من مُناسبة ، فما كان من السيّد جابر أغائي وبشجاعته المعروفة إلاّ أن يتصدى لهذا الصعلوك البعثي الذي يحاول التمظهُر بمظهر المفكّر فقام بالرد عليه وتسفيه إدعاءاته وأفكاره الماسونية الحاقدة عندما كان يخطب في أحد مجالس العزاء في محافظة ميسان جنوب العراق فما كان من جلاوزة الأجهزة الأمنية آنذاك إلاّ إعتقاله لهذا السبب وإرساله إلى بغداد لينال عقوبة أكبر فبقي حوالي أربعة عشر يوماً في السجن ولم يخرُج منهُ إلاّ عندما توسّط لهُ العشرات من مُحبيه ومُريديه طالبين منهُ مُشفقين عدم التعرض إلى رموز حزب البعث مرة أخرى لأن عاقبة ذلك خطيرة جداً .
الصوت الشجي الحزين :
يتميز صوت السيد جابر أغائي بالنبرة الحنونة والوتر الشجن الملازم لأنين الأحاسيس من شدة الحزن والتأثر بما جرى في واقعة كربلاء وعموم مصائب أهل البيت عليهم السلام ، فكان “قده” إذا ما بدأ نعيه ترى الباكين من الحاضرين في مجلسه يُبدأون البكاء بمرارة وكأنهم يعيشون المصيبة بواقعها ، أما إذا ما وصل الحال بالسيد جابر بالتأثر إلى درجة البكاء فإنه ينقطع نفسه من شدّة البكاء ويترك النعي ويشارك الحاضرين في مجلسه بكاؤهم فهو معروف بشاعريته وحساسيته ودمعته السريعة الإنهمال في أي موقف فيه من ذكريات الحزن حتى أن أحد الخطباء يصف السيد كيف أنه أجهش بالبكاء والنحيب قرب مرقد الصحابي المجاهد الجليل عمار بن ياسر “ع” في مدينة الرقة بسوريا تأثراً بما جرى عليه من أحداث ومصاعب ومصائب عليه وعلى أهله وعلى الإمام أمير المؤمنين “ع” . وبذا يكون السيّد جابر في بُكائه إشارة إلى أن الإنسان ولا سيما الخطيب ينبغي عليه أن يعيش الحالة التأريخية وجميع الأحداث التي جرت على أهل البيت “ع” من مصائب ومآسي لا أن ينقلها عبر لسانه شأنه شأن آلة التسجيل لا أكثر بحيث يجب أن ينصهر مع مضمون ما يرويه من أحداث على الأقل ليتأثر ويؤثر بها .
العُمق والقوة في التحليل التأريخي والسياسي :
لعل من أهم مُميزات الأداء الخطابي للسيد آغائي هي العمق التحليلي للنصوص والروايات والقضايا التأريخية التي يتطرق لها في مجالسه الدينية الحسينية وهو أمر نادر جداً بين طبقة خطباء المنبر الحسيني للأسف الشديد رغم أهميته في عملية النهوض بعقول الأمة والإرتقاء بمستوى وعيها الحضاري والسياسي والإنساني ، إذ غالباً ما نرى طُغيان الإسلوب التقليدي في مضمون المجالس الحسينية الخطابية التي كثيراً ما تركز على القضايا والأساليب العاطفية دون العقلية .
فالسيّد أغائي كان يُشخص في مُعظم مجالسه المشكلة الأولى في الإسلام ويحكم عليها بأنها هي السبب الأول والأخير في المصائب والبلايا التي أصيبت بها الأمة الإسلامية والمنطقة العربية سببها هو الإنحراف الخطير المتمثل بمؤامرة السقيفة وكل ما يتعلق بها من إنحرافات عن المنبع الصافي للإسلام الحقيقي وما تبعه من تكالب ذوي الأغراض المريضة الفاسدة والمعادين للإسلام فتوالت المصائب تلو المصائب على الإسلام .
الإسلوب التجديدي في الأداء الخطابي :
أخذ السيّد جابر الخطابة على يد الخطيب السيّد باقر سليمون لينعطف بعد ذلك بثُقله وجهوده وطاقاته المبدعة إلى خدمة المنبر الحُسيني خطيباً جماهيرياً مُتميّزاً يتفجّر إبداعاً وصرامة ونقداً لاذعاً بإسلوبه الساخر المثير بحيث تتحول أحاديثهُ موضع التندّر والتفكّه المقرون بالإعجاب لدى الطبقات المختلفة من المستمعين رسمياً وإجتماعياً ودينياً ،
فقد حاول بكُل طاقاته التجديد والإبداع بالأداء الخطابي بعيداً عن الأداء الكلاسيكي القديم الذي كان سائداً آنذاك والذي كان يغلب عليه طابع النعي والبكاء والرواية دون التحليل والتفسير والتدقيق والتأمل في ما يرويه الخطيب فضلاً عن الوقت القصير وطبيعة ومضمون ما يرويه أمام الناس ، فلذا أدخل السيد جابر آغائي “قده” عُنصرين من أهم ما تميّز بهما على سائر الخطباء هُما عُنصُر التحليل السياسي والتأريخي المعمق وعُنصُر الربط التأريخي عندما يُبدع في ربط الحادثة التأريخية في مُجريات الحاضر والمستقبل وهو ما دعا المفكر الإسلامي الخالد الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد مُحمّد باقر الصدر “رض” بأن يصف خطابة السيّد جابر آغائي عندما إستمع إلى خُطبته الشهيرة في العاشر من مُحرّم الحرام في صحن العتبة العلويّة المقدسة بالقول : ( لو جئنا بأكبر أديب من أُدباء العرب لما إستطاع أن يُصوّر أحوال ليلة العاشر من المحرّم كما صوّرها السيّد جابر في هذا المجلس .. ).
وهكذا فإن إسلوب السيّد جابر آغائي في خطابة المنبر الحسيني هو مدرسة بحد ذاتها ولا أدل على ذلك من أن شرائح لا تعد ولا تحصى من خطباء المنبر الحسيني الآن قد إتبعت مناهج هذه المدرسة وفكر مؤسسها قلباً وقالباً لساهموا في ضعضعة عروش الظلم والباطل أينما كان وبأسلوب وأداء مُلائم لروح العصر وما يتطلبهُ من لُغة مُتفهّمة للتطورات الحياتية المتسارعة والخطيرة .
الورع والتقوى والزهد والإيمان :
هذا الرجل يعرفهُ القريب والبعيد بصفات ومزايا أخلاقية يندُر أن تجد مثيلها في وقتنا الحاضر وبندرة الكبريت الأحمر ، فهو من الورع والتقوى والإيمان ما جعل بعض المقربين منهُ يجزمون بأن السيد جابر آغائي هو ولي من أولياء الله والعُرفاء الذين يصلون إلى درجات عالية جداً من الإيمان والعلاقة بالله سُبحانهُ وتعالى بأسرار لا يعلمها إلاّ الله تعالى وحده وليس من خلال مظاهر العبادة من صلاة أو صيام أو حج أو غيرها .
ومن يدري فلعل سر عرفان السيد جابر بالله تعالى هو حُبه وتعلقه وتأثره العميق بأهل البيت “ع” ، وعلى كُل حال فإنه كان من شدة الإيمان أنه يشعر بتعلق خاص بالمعصومين “ع” أكثر من كل شيء إلى درجة إقتداءه بوصاياهم الدقيقة وحتى البسيطة منها في الظاهر .
وفي زُهده بالدنيا الفانية كان عجيباً في زهده يسير على خطى الإمام أمير المؤمنين “ع ” في زهده بدُنياه ومن ذلك ما يرويه الحاج علي الصائغ رجل الأعمال الإماراتي المعروف أن السيّد جابر كان يخطُب في مجلسهم السنوي في موسم عاشوراء ذات عام ، فقدّم لهُ مُعجبوه ومُريدوه ومحبو قراءته بعض الهدايا فقبلها منهُم على إستحياء وحرجاً ، وعند إنتهاء موسم عاشوراء خرجنا لتوديعه في المطار ، وهُناك سلمنا ـ السيد آغائي ـ مفتاح الغرفة المعدة لإقامته ، ولما رجعنا وجدنا الهدايا المقدمة لهُ قد كَتَب عليها أسماء أصحابها لإعادتها إليهم مع تقديره وإمتنانه لمشاعرهم وعواطفهم .
ومن ذلك أنهُ صادف يوماً الوجيه المرحوم الحاج عباس آل حكمت في كربلاء المقدسة ذات يوم وكان يعرفهُ جيداً وتوجد بينهُما علاقة وصلة رحم وكان الحاج عباس هذا من وُجهاء مدينة النجف الأشرف الذين يتشرف الجميع بالتودّد له ، فلما صادفه السيّد جابر في كربلاء في أحد المجالس أمام الناس لم يُسلم عليه ولم يقترب منه فإستغرب الحاج عباس منه هذا التصرف مع أن لا شيء بينهُما يُسبّب القطيعة أو الجفاء فلما إلتقى الحاج عباس بالسيد جابر في النجف الأشرف إستفسر منه عن سبب هذا الجفاء في المجلس الفلاني عندما كانا في كربلاء ؟ فأجابه السيّد جابر بأنهُ : تعمّد عدم السلام والجلوس معه لأنهُ رجُلٌ وجيه وثري بحيث أن سلامهُ وجلوسه معهُ قد يُعطي إنطباعاً عنه بأنهُ يتملّق له أو يتودّد طمعاً به وبما لديه وهو ما لا يليق ولا ينبغي أن يحصل مع رجُل الدين والخطيب الذي ينبغي أن تكون لهُ شخصية مُحترمة بعيدة عن أجواء التملق والمصالح .
الشخصيّة الإجتماعية المتميزة :
يمتلك العلامة السيد جابر أغائي كاريزما إجتماعية مميزة جداً جذبت لهُ قلوب الناس وهواهم بفعل ما كان يتصف به من صفات مُحببة أودعها الله فيه كحس المداعبة وروح النكتة وصراحته وشجاعته النادرة في التعبير عن رأيه وموقفه بدون مُجاملات أو تكلف أو تملق إجتماعي . ورُبّما صراحته وشجاعته هذه هي التي جرت عليه بعض المشاكل أيضاً التي دفع ثمنها غالياً في الكثير من محطات حياته الشريفة .
هذه المواقف وغيرها العشرات تكشف عن جانب مهم ومشرق في شخصية هذا العالم المجاهد وشخصيته الحسينية الفذة الذائبة في القضية الحسينية . ومن باب الوفاء أقل الوفاء هو إستذكاره رسمياً وشعبياً كل عام وتعريف الأجيال الحسينية الصاعدة بسيرة هذا الجبل الأشم ليكون قدوة لكل حُسيني حُر .

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى